الطقس
Loading...
أوقات الصلاة
الفجر 5:14 AM
الظهر 11:49 AM
العصر 2:40 PM
المغرب 5:06 PM
العشاء 6:24 PM
العملات
Loading...
ترددات البث
جنوب فلسطين FM 96.8
أريحا و الأغوار FM 96.8
وسط فلسطين FM 98.3
جنين و الخليل FM 98.3
شمال فلسطين FM 96.4

مهدي القدس… إرث لا يغيّبه الرحيل

الكاتب: نادية حرحش

من الصعب وضع كلمات ترثي شخصية فقدانها يترك أثراً في المكان والزمان، في وقت يعيش فيه المكان لحظات ثقيلة ومصيرية. القدس تودع مهدي عبد الهادي بهدوء ودموع وشعور بالفقد، لكن إرثه يبقى خالداً، كنبض هذه المدينة، مستمر لا ينقطع.

مهدي عبد الهادي، شخصية دمثة الهيئة والحضور، مؤثرة بقوة، حاضرة كالسهل الممتنع. قد تختلف معه أحياناً، وقد ترى في أفكاره ما لا يتوافق مع رؤيتك، ولكن لا يمكن الا تفكر، ان قلب هذا الرجل كان دائماً ينبض بإيقاع هذه المدينة حرصاً، وحبّاً، ومحاولات لا تنتهي  لوضع سطور فهم ومعرفة تربط المدينة بسكانها، وما يحيط بها من سجالات وأفكار وطموحات وتوقعات تتحدى المكان والزمان.

وُلد مهدي عبد الهادي في نابلس عام 1944، لكنه عاش معظم حياته في القدس. درس القانون في جامعة دمشق في سوريا وبدأ مسيرته المهنية كمحامٍ، كما كان والده وجده من قبله. لكن سرعان ما أدرك أن القانون لا يكفي لمواجهة التحديات التي تعصف بالفلسطينيين. فتوجه الى الصحافة والاعلام الجماهيري وأسّس مع يوسف نصر صحيفة “الفجر” في السبعينيات. وبعد اختطاف نصر، شعر عبد الهادي بالحاجة إلى الكتابة عن القضية الفلسطينية، وسرعان ما نشر كتابه الأول بعنوان “القضية الفلسطينية والحلول السلمية”.”

في عام 1977، أسّس منتدى الفكر العربي، الذي أتاح للفلسطينيين منصة للحوار وتوحيد الرؤى بين الفصائل المختلفة. كما عمل مع جامعة بيرزيت لتأسيس أول مكتب علاقات عامة فلسطيني لتعزيز الفهم السياسي الأعمق من خلال تبادل الأفكار والنشر والتواصل. بعد حصوله درجة الدكتوراه عام 1984 من كلية دراسات السلام في جامعة برادفورد بالمملكة المتحدة، توسعت رؤيته حول القضايا العالمية، مما جعله زميلا في جامعة هارفرد. ومن ثم أسس الجمعية الأكاديمية الفلسطينية لدراسة الشؤون الدولية (باسيا) عام 1987، والتي أصبحت منصة للفكر والحوار، وجسراً يربط بين الماضي والحاضر، الأرض والإنسان. لقد كانت باسيا بالنسبة له منصة تجسد رؤيته العميقة لقضية فلسطين. من خلالها، فتح الحوار الحر، وكرس حياته لنشر الوعي وإثراء النقاش حول قضايا الأرض والشعب والحقوق، ليترك إرثاً فكريّاًِ لا يزول.

من السهل الوقوف امام إنجازات شخصية عظيمة ومراجعتها والتوقف للحظات والشعور بالفخر بأن رحم أمهات هذا الوطن لا يزال ينجب من يحفظ مكانة وارث هذا الوطن السليب. اشعر بالفخر على الصعيد الشخصي لوقوفي امام الدكتور مهدي على مدار السنوات للحظات مكنتني في كل مرة من الوثوق بالخير الموجود لدى الناس بالرغم من الشر المنتشر حولنا. كنت اشعر بالفخر من رؤيته لي، من تشجيعه لي، من الوقوف امام افكاري متفقا أحيانا، مهتما أحيانا، مختلفا أحيانا، ولكن دوما منصتا، محترما، مشجعا.

لا يمكنني حصر المرات التي فكرت فيها بأهمية ما قدمه الدكتور مهدي عبد الهادي للقدس من خلال باسيا تحديداً على مدار عقود وعيي بالقضية الوطنية واهمية رؤيته والتفكير بها من خلال فكر أكثر انفتاحاً لواقع الحياة، بتمسك بالحق كقفل ومفتاح لهذه القضية.

في السنوات الأخيرة، كنت أحرص على حضور الندوات التي كان يدعو لها لكي أستلهم من صلابته وإصراره الذي ظل شعلة مضيئة رغم وطأة المرض. جسده ربما أنهكه المرض، لكنه لم يتمكن يوماً من كسر عزيمته أو إطفاء جذوة شغفه بوطنه ورسالته..

ربما تسدل القدس ستارا أخيرا في فصول هذه الشخصيات المهمة والمخلصة من زمن رأى وعاش فيه الناس الكثير من التقلبات والانقلابات على امل حرية مبتغاة.

ربما لن أجد خاتمة أفضل لهذا الوداع من كلمات للدكتور مهدي عبد الهادي بمقال له حمل عنوان “وجهة نظر شخصية لم تكتمل بعد”، “أن تكتب كما تفكر، وأن تعبر كما تحب، وأن لا تغرق في بحر الكلمات، وأن لا تنتظر ثناءاً أو مديحاً، وأن لا تخشى عتابا أو انتقاداً، وأن تتساءل، لمن أ كتب؟ وهل أكتب “ل لتاريخ” كمراجعة وتسجيل “الأحداث الواعية” والناتجة عن “الحقائق” الاجتماعية والاقتصادية والمصالح السياسية، أم أكتب من “الذاكرة” باعتبارها حاضنة لقصص الحياة وما آلت إليه من نجاح أو إخفاق؟ أعتقد أن المسؤولية في الكتابة، وخاصة إذا كانت عن “الذات”، عن “العائلة”، ان نجمع بين ” التاريخ والذاكرة ” ، بمعنى أن نكتب عن الأحداث ورجالها، بفكر ومنطق زمانها ومكانها وليس بالضرورة بمنطق عصر اليوم، حتى ن وفر الموضوعية والشفافية، والنزاهة العلمية والأمانة المعرفية للحقيقة.”

أعتقد ان هذه العبارة تلخصه تماماً. فقد كان رجلاً لا يخشى التعبير عن رأيه والوقوف بثبات خلفه. ومع التقدم في العمر، اكتسب حكمة ورؤية أعمق زادت من اتزانه وايمانه بقضية لطالما تداخلت ابعادها ، وتقاطعت فيها  مصالح الشركاء والفرقاء.

برحيل الدكتور مهدي عبد الهادي، تفقد القدس وفلسطين قامة فكرية وإنسانية تركت بصمة لا تمحى في تاريخ القضية وقلوب كل من عرفه.

عزائي الصادق لعائلته الكريمة، وعائلة باسيا، ورفاقه، وكل من تأثر بفكره ورسالته. إرثه سيبقى حاضراٌ وملهماً للأجيال القادمة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.
Loading...