أخوته هم قاتلوه!
الكاتب: بكر أبوبكر
لا تسل عن الحالة النفسية التي يعانيها الفلسطيني المكروب ما بين غمّ وآلام، وقلة فهم من بعض الأقارب وكثرة من الأباعد! وما بين مصائب تحيط به من كل الجنبات سواء في وضعه الذاتي أوفي محيطه وانعكاسات ذلك في ذاكرته ونفسه وروحه.
لا تسل فقط عن قلة الأكل والشرب، فالأصدقاء راحوا وكل شيء ارتبط بالقلة!
هل حقق الفلسطينيون معجزة الصبر بعد الفقد العظيم، أم هم الى ذلك مضطرون!
لا تسل فقط عن التهجير المتكرر أو عن قتل الأحباب أمام عينيك، ولا تسل عن انعدام الامن في شمال وجنوب فلسطين، وعن انعدام الامكانيات الى حد الركض اليومي في محاولة بائسة للحصول على أدنى الاحتياجات التي تتمنع أن تظهر لك أو لطفلك بعيونه التي تحجرت بها الدموع!
لقد تحولت الاحتياجات اليومية في مسار أي حياة عادية لدى الفلسطيني الغزّي الى مجرد أحلام تبرز من بين أكوام الذكريات المستقرة والأمل المفقود!
كنت أفكر بهذا الشكل وأنا أركب حافلة الأجرة (سيارة الفورد ذات الركاب السبعة) وبصحبة الاخ د.المتوكل طه ذاهبان لفعالية ثقافية في مدينة أريحا، وأيضًا حول كتاب للاخ محمد قاروط، بتوقيع هيئة التدريب العسكري برئاسة الاخ اللواء محمود هارون.
ما بين الحزن العميم والقلق الطميم، وإشارت التنبيه المخّية، ومجريات لا يستطيع أحد خارج المأساة المستفحلة أن يدركها تتفاعل في النفس المتفتتة، والمشتتة الاتجاهات والقرارات!
إنها نفس حرّة ومقيدة في آن، وهي ممزقة بين الواجب والممكن، وما بين الضرورة والاستطاعة وما بين القائم والمأمول، والكثير الكثير من المتناقضات التي تلتقطها عيناك على جوانب الطريق القصير- الطويل بين رام الله وأريحا الزاخر بالمستخربات (المستوطنات) التي أكلت من الضفة الفلسطينية معنى البهاء والنور، وحققت لدى الفلسطيني المقاوم بالصمود فوق أرضه تزعزع البقاء في ظل عبثية المشهد الفلسطيني البائس والعربي العاجز!
ما بين بكاء الأعين وخلجات القلب وتقطع الأنفاس، وما بين دمار النفس التي لم يعد فيها ما يمكن تضميده تتواصل في قلبك ونفسك التداعيات كسيلٍ من الأحجار القاسية!
لا يجد العقل بين غيوم السواد غير الممطرة الا الوقوع في قعر اليأس أحيانًا، ثم تجد أنك وبموقعك أو فهمك لدورك تحاول أن تتراجع عن هذه السقطة، في هذه الهوة النفسية السحيقة فتنجح أحيانًا وتفشل في أحايين....الى كل ذلك تذكر أنك إنسان ولست جلمود.
لك أن تقول ذلك، أي يمكنك أن تحسّ بالآخرين وتقول وتتفكر وتتنفس بنَفَس الثابتين! ثم تكتب وأنت على كرسي أنيق ومكتب وثير!... بارك الله بك.
ولكن ماذا عليه أن يقول صديقي في غزة الذي زاملته بالجامعة سنين طويلة وهو الآن بين السماء والطارق! وكل عائلته المتكومة من الجوع والمنكمشة من البرد والخائفة من قصف صهيوني لا يُفهم هدفه الا عشق الموت بين الخيام! أو ذاك الذي شاركني التدريب عندما كان يتحرك ما بين الضفة وغزة، أو أخي الذي لا أعرفه وهو يعاني جسديًا ونفسيا وعقليا!؟ إنها لمأساة لا يتحملها عقل فكيف تتحملها النفس البشرية؟
إننا شعب جبار وصامد ومرابط وذو بأس شديد؟
تقنيًا المقصود بشعب الرباط والجهاد كل بلاد الشام أو كل أمة المسلمين بتعاضدها وجهادها بكل الأشكال، وهم أي الأباعد خارج فلسطين ألقوا بالمهمة علينا نحن فقط!
إذهبوا أنتم لمصيركم المحتوم وفق قاعدة أنهم في أماكنهم قاعدون! ومن وراء جوالاتهم هم مناضلون! بل ومنتصرون!؟
هل نحن نسلّي أنفسنا -خاصة بالبعيد عن الميدان- بهذه الأفكار لنثبت للعالم ولأنفسنا أننا أبطال؟ أم نحن بالحقيقة ناس عاديين، فلسنا أبطال تاريخيين، ولسنا أساطير، ولسنا أبطال الرسوم المتحركة؟ أو مثل تلك الأكاذيب والتشويشات الذهنية حيث يطير البطل (الأبيض) لينقد طفلة بين الركام أو قطة غرقت، أو بقرة زلقت رجلها بالطين! أو ينقض على ألف مقاتل مما يتوج شرائط (أفلام) هوليود!
هل اخوتنا هم قاتلونا؟ كما يقتلنا المحتل أم نحن متشائمون أو في غيّنا سادرون!؟
تصفّق الجماهير المهيّجة والعاطفية لدرجة التفاهة، وهي بالضرورة غير العاقلة لغرائزها، ولما تبتغيه أو لما تحلم به أو تفترضه، كما تصفق لمشاهد الشرائط (الأفلام) مما وصفنا، وهي الى ذلك تصفق لهبلها وقلة حيلتها من جهة، ولاستنكافها عن فعل أي شيء من جهة أخرى!
وكأن دور السوقة أو (الامّعات) من الجماهير فقط قد استقر بين مداعبة الهاتف النقال، وأكل الطعام الدسم وغرفة النوم، وأحلام وردية ياسيدي!
فالأجانب من الشبيبة في أوربا وأمريكا لا يتوقفون عن النضال الفعلي من أجل فلسطين أفلا تقتدي بهم وتخرج من شرنقتك وغباءك وكسلك ولذيذ أحلامك!
زهقنا ومللنا النفخ المبرمج الذي يرسم ذاته متعملقة فوق ظهورنا، وعلى أشلا ء شعبنا في أكبر ملحمة إبادة جماعية بالتاريخ حين يتوقف الزمن ليتحول الى اللون الاحمر فقط! رغم كل قمرات (كاميرات) العالم التي ترصد كل بقعة دم أو صرخة طفل أو نداء شاب يعلم ألا مجيبّ.
كيف لك ألا تغضب! وكيف لك ألا تنقهر من مأساة التخلي "الأخوي"، ومن فكرة التعظيم أوالتفخيم الفارغة التي يحيطك بها الأباعد من اخوانك الذين يأملون بك أن تموت اليوم قبل الغد من أجل ماذا ؟
من أجل فكرة فارغة عشعشت في أذهانهم أن واجبك هو الموت!؟
وما كان الموت المجاني لمن يمتلك يديه فقط، إلا خروجًا عن فكرة العمل والعطاء والاستخلاف التي منحها الله للبشر. يعملون ويتواصلون ويبنون، وليس يموتون بلا أي ثمن ولا أي داعي مما يحاول الآخرون أن يسبغوه عليك ليس إكرامًا وحبًّا لك، وإنما تخففًا أو تنازلًا عن مسؤولياتهم هم.
لا لسنا ممن يُحب الموت كما يحاولون أن يلصقوا بنا ذلك، بل نحن نحبُ الحياة.
نعم، نحن شعبٌ يحب الحياة لأن العيش واجب رباني وواجب الخلق.
وفلسطين أرضنا ولا يتم إعمارها الا بأيدينا نحن.
وإن استدعى الأمر أن تضحى فالتضحية لا تكون بالناس، بل للناس، بقادة وطلائع الناس من الفدائيين، أي من أجل الناس.
ويا ويلي حين ينقسم الشعب بين ما يبتغيه الاعلام الفتنوي المضلّل، والفصيل الممانع فيتخلى عن ثُلثي شعبة (الأنروا) ويبقي كل عوامل البقاء لذاته، على رقاب الناس التي تتساقط يوميًا في فجوة بلا قرار!
بين متناقضات الفهم وتباريح النفس، وبين أكاذيب الفصائل واحتكار الذات الالهية أو احتكار الأسلوب النضالي المفخّم في ظل انعدام القوة المادية الفعلية حاليًا أمام الوحش الامريكي-الصهيوني الفتاك أنت تضيع! فلا تستطيع أن تفهم ولا تستطيع الخروج من شرنقة أفكارك الداهمة بلا توقف.
وبالعودة لمجتمعك المترع بحب الكلاب وارتياد المقاهي ما حول فلسطين، وهم الى ذلك يتكرشون يوميًا مفترضين أن واجبهم الأعظم الوحيد انتقاد أي حركة تقوم بها أنت، هنا في فلسطين!
يمنع عليك الشكوى ويمنع عليك التأوه، فأنت بطلٌ وأنت عظيم! وأنت مناضل وأنت شهيد، فاخرس ولا تتكلم إلا بما نريده!
يقولون لك بأفواههم وبعيونهم وبعبثهم على "فيسبوكهم" أنت مرابط مشتبك دائم بلا توقف؟! ولا راحة واجبة لك، كما يُمنع عليك الصراخ أو حتى قول (أخ)، والى ذلك تكمم أفواه العقلاء لأنهم بالقطع إما خارج الملّة أو مرتبطين بالعدو!
يمنعُ القلق وتمنع الشكوى، أما أنات الحيارى والثكالى فمرفوضة من أساسها!
وكأن واجبك الأثير هو أن تموت، وواجبهم هم أن يأكلوا المناسف يوميًا، فلا يتخلون عن لحم الطليان (جمع طلي صغير الخرفان) وعن لحم البقر المشدود في شطيرة (ماكدونالد) أو غيرها، مما لا يُقاطع الا على "وسائل التواصل الاجتماعي" افتراضيًا! وهل يقاطع الانسان عظيم الاستهلاك عظيم البطن بطنه! حاشا لله.
في السيارة (الفورد) التي نقلتنا من رام الله الى أريحا تتعاظم في ذهنك الأفكار، فمنها من يقبض على رقبتك حتى تكاد تختنق فيها، ومما تراهُ من مشاهد الحواجز الاحتلالية، والمستعمرات (المستوطنات) ومن انتشار نموذج الجندي الإسرائيلي الممسك بسلاحه ويعبس أو يبتسم فكلها مظاهر استفزازية، لا تقل استفزازًا عمن يشيحون بنظرهم بحقيقة الأمر عن دعم إخوانهم في غزة بشيء من المال! يقولون: هذا جيبي وهو لي فقط، ولمتعتي!
هم يستعيضون عن حقيقة الدعم لإخوانهم بتناقل الغث قبل السمين، وتمريره ومشاركته بشجاعة المقاوم "الفيسبوكي" أو "التكتكي" العظيم، وبشتم السلطة وبتعهير كل الفلسطينيين ممن يختلفون معهم! ولمن يحبونهم لا يملكون الا الدعاء لهم بالموت السريع، ليتفاخروا هم عنهم أنهم فلسطينيون؟
المسافة بين رام الله وأريحا بأسوأ الاحوال تأخذ نصف ساعة لكنها بحالتنا الموصوفة أخذت ما يقارب الساعتين من طرق التفافية وعرة بين القرى والشوارع المدمرة، وما بين الحواجز والازدحام وما بين يد الجندي الصهيوني قد يضعها في منخره أو أي مكان آخر، ولكنها قلما تشير للمركبة بالسير الا حين يزهق من وقفته فقط!
الروحُ تلهث وراء أمل، أي أمل ولربما تكون والنفس صنوان أو عدوتان ومتشابكتان مع العقل الذي يقرأ ويرى ويعي ويجد أن أخوته هم قاتلوه، إضافة الى المحتل والظالم الأبدي!
هل وصلنا أريحا أم لم نصل بعد؟