الاستعمار الثقافي: كأداة للرأسمالية للهيمنة الأيديولوجية لتحويل قيمها المحلية إلى معايير عالمية
الكاتب: عمر رحال
الرأسمالية، كنظام اقتصادي وسياسي، تطورت على مدى القرون لتصبح القوة المهيمنة عالمياً. ومع توسع نفوذها، لم تقتصر الرأسمالية على السيطرة الاقتصادية، بل تعدت ذلك إلى استخدام الثقافة كوسيلة للهيمنة الأيديولوجية. تعد الثقافة في هذا السياق ليست مجرد نتاج إنساني يعكس التقاليد والقيم المحلية، بل أصبحت أداة لنشر قيم البرجوازية، وتحويلها إلى معايير عالمية تُفرض على المجتمعات المختلفة.
كما أن الهيمنة الثقافية هي عملية تَستخدم فيها الدول الغربية قوتها الناعمة لفرض قيمها وأنماط حياتها على المجتمعات الأخرى، سواء كان ذلك من خلال الإعلام، التعليم، الفنون، أو التكنولوجيا. هذه الهيمنة تعمل على نشر فكرة أن القيم الغربية، مثل الحرية الفردية، الديمقراطية الليبرالية، والسوق الحرة، هي "طبيعية" و"حتمية" لتقدم البشرية، بينما تُهمَّش الثقافات الأخرى وتُصوَّرها على أنها متخلفة أو غير متماشية مع العصر الحديث.
لذلك الثقافة هي واحدة من أهم الأدوات الأساسية للدول الغربية في ممارسة الهيمنة الأيديولوجية على المستوى العالمي مصحوبة بميزة التفوق العلمي والتكنولوجي لدى الغرب. فمنذ عصر الاستعمار وحتى يومنا هذا، استخدمت الدول الغربية الثقافة للسيطرة على الوعي الجمعي في دول العالم الثالث أو الدول المستعمر الفقيرة وتوجيه العقول لتشكيل العقول والوعي الجمعي بما يخدم أهدافها الإستراتيجية، سواء لتعزيز مصالحها الاقتصادية أو لتكريس نفوذها السياسي والعسكري. تُمارَس هذه الهيمنة من خلال نشر القيم الغربية باعتبارها المعايير العالمية الوحيدة المقبولة، وتسليع الثقافة لتصبح وسيلة للتحكم في المجتمعات، خصوصاً في الدول النامية. الثقافة، بوصفها مجموع القيم والرموز والأفكار والتقاليد، تمثل أداة قوية ووسيلة فعالة لتشكيل العقول والتأثير على السلوك.
الهيمنة الأيديولوجية، كما صاغها المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، تعني قدرة الطبقة المهيمنة على فرض رؤيتها للعالم كمعيار يُتبع. تتحقق هذه الهيمنة ليس بالقوة أو الإكراه فقط، بل عبر وسائل ناعمة مثل الإعلام، التعليم، والدين، لتصبح أفكار الطبقة الحاكمة هي الأفكار السائدة في المجتمع. لذلك فإن الثقافة في هذا السياق ليست فقط وسيلة للتواصل أو التعبير عن الهوية، بل تصبح أداة لإعادة إنتاج النظام القائم وترسيخ قيمه. من خلال الثقافة، تُحوّل الأفكار الأيديولوجية إلى جزء من "العقل الجمعي"، مما يجعل مقاومتها أو حتى إدراك وجودها أمراً صعباً. ففي ظل النظام الرأسمالي، وتطور منظومة القيم النيولبيرالية يتم تسليع الثقافة وتحويلها إلى منتج يُباع ويُشترى، مما يتيح للنخب البرجوازية استخدام أدوات الثقافية المختلفة لتعزيز هيمنتها الأيديولوجية.
حيث يعتبر الإعلام، إلى جانب أدوات أخرى من أهم الأدوات التي تستخدم الثقافة للهيمنة الأيديولوجية الإعلام هو أقوى أداة تُستخدم لنشر القيم الغربية. تُهيمن الشركات الإعلامية الغربية على الساحة العالمية، مثل CNN، BBC، وNetflix، FOX وتقدم سرديات عالمية تعكس مصالح واجندات الدول الغربية. كما تُستخدم الأفلام والمسلسلات للترويج لنمط حياة غربي يُظهر المجتمعات الغربية كرمز للتقدم والحضارة. يتم تصوير الديمقراطية الليبرالية كنظام مثالي، بينما تُقدَّم المجتمعات غير الغربية على أنها بحاجة إلى "التحديث" أو "الإنقاذ". ، أما الأخبار فهي أيضاً واحدة من الأدوات، حيث تُشكِّل القنوات الإخبارية الغربية الرأي العام العالمي عبر انتقاء الأخبار وتغطية الأحداث من زاوية تخدم أجنداتها السياسية. فعلى سبيل المثال، يتم تصوير التدخلات العسكرية الغربية في الدول النامية كجهود لنشر الديمقراطية، بينما تُهمَّش أصوات المعارضة لهذه التدخلات. كما تعتبر العولمة وسيلة فعالة لفرض الهيمنة الثقافية الغربية. من خلال التجارة الحرة وانتشار الشركات متعددة الجنسيات، تُصدَّر القيم الغربية كجزء من السلع والخدمات. أما العلامات التجارية العالمية مثل ماكدونالدز، كوكا كولا، وآبل لا تُقدم منتجات فقط، بل تُروج أيضاً لثقافة استهلاكية غربية تعتمد على الفردية والمظهر الخارجي، وتحكم منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالاقتصاد العالمي ونشر الثقافة الاستهلاكية في المجتمعات النامية الفقيرة.
هذا إلى جانب الموضة والموسيقى، حيث أن صناعة الأزياء والموسيقى تُستخدم لنشر نمط حياة غربي جذاب، يتم تصويره كرمز للحداثة. تُساهم هذه الصناعات في خلق هوية عالمية تتوافق مع القيم الغربية، مما يؤدي إلى تآكل الهويات الثقافية المحلية. كما أن الجامعات ونمط التعليم الغربي هو واحد من الأدوات الرئيسية التي تُستخدم لنشر الهيمنة الأيديولوجية الغربية. تُقدم الجامعات الغربية كمعيار للتعليم العالي، مما يجعل الطلاب من جميع أنحاء العالم يتبنون رؤى وقيم هذه المؤسسات. هذا إلى جانب المناهج الدراسية، حيث يتم تصميم المناهج التعليمية في العديد من الدول النامية وفقاً للنماذج الغربية، مما يؤدي إلى تعزيز القيم الغربية على حساب القيم المحلية. أما البعثات الدراسية تُستخدم كوسيلة لتشكيل النخب المحلية وفقاً للأيديولوجية الغربية. يعود الطلبة الذين يدرسون في الغرب إلى أوطانهم وهم يحملون رؤية عالمية تتماشى مع المصالح الغربية، وليس أقلها الفن والأدب حيث يتم تقديم روايات مثل أعمال شكسبير، تولستوي، وأدب عصر النهضة كأعمال عالمية، بينما تُهمل الأعمال الأدبية من الثقافات الأخرى. كوسائل للنفوذ الثقافي الغربي، والذي يقدم على أنه عمل عالمي ذي قيمة عليا، مما يؤدي إلى تهميش الفنون والآداب المحلية .كما تستخدم السينما كأداة لنشر القيم الغربية. الأفلام تُظهر الولايات المتحدة والدول الأوروبية كقوى خيرة تدافع عن حقوق الإنسان، بينما تُصور الدول الأخرى غالباً كديكتاتوريات أو مجتمعات فوضوية.
ومع ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت التكنولوجيا أداة قوية لبسط الهيمنة الثقافية في العصر الرقمي، حيث تُستخدم التكنولوجيا لنشر الهيمنة الثقافية الغربية، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تُهيمن الشركات الغربية مثل فيسبوك، إنستغرام، وتويتر، ويوتيوب على الاتصال الرقمي، مما يجعلها أدوات لنشر القيم الغربية بشكل غير مباشر.
في حقبة الاستعمار وما بعدها، فرضت القوى الغربية ثقافتها على المجتمعات المستعمرة، وخاصة اللغة كمكون أساسي من مكونات الثقافة الغربية، مما أدى إلى تآكل الهويات المحلية. اليوم، تُستخدم أدوات مثل الإعلام العالمي لترويج القيم كما أنها تعزز ثقافة الاستهلاك من خلال الإعلانات التي تُصور السعادة والنجاح كمقترنين باقتناء السلع المادية. هذه الثقافة تدفع الأفراد للعمل والاستدانة لتحقيق "السعادة" وفق المفهوم الرأسمالي. في الماضي كانت الدول الاستعمارية تستخدم الاستعمار التقليدي لفرض هيمنتها على الشعوب الأخرى من خلال الاحتلال العسكري، أما اليوم، فإن الاستعمار الثقافي يُفرض من خلال السيطرة الاقتصادية والثقافية. القيم الغربية البرجوازية تُقدَّم على أنها معيار للتحضر، مما يؤدي إلى تآكل الهويات الثقافية المحلية وإضعاف التنوع الثقافي.
ومن هنا فإن أهداف الهيمنة الثقافية الغربية، تتمثل في تعزيز السيطرة الاقتصادية، حيث تسهم الهيمنة الثقافية في تعزيز السيطرة الاقتصادية الغربية من خلال فرض قيم استهلاكية تُزيد من الطلب على المنتجات والخدمات الغربية. هذا إلى جانب إضعاف الثقافات المحلية من خلال فرض القيم الغربية، يتم تهميش الثقافات المحلية وجعلها تبدو غير متماشية مع العصر الحديث، مما يؤدي إلى فقدان المجتمعات لهويتها. وأبعد من ذلك فإن الدول الاستعمارية تهدف من وراء الهيمنة الثقافية إلى تعزيز وتأمين النفوذ السياسي لها على الدول والمجتمعات الأخرى، مما يُسهِّل التدخلات السياسية والعسكرية.
كما أن النتائج المترتبة على الهيمنة الثقافية ذات أبعاد خطيرة ليس أقلها تعميق التفاوت الطبقي، حيث يتم تصوير النجاح على أنه مقتصر على الأثرياء والمستهلكين. الفقراء يتم تهميشهم وتصويرهم كفاشلين لعدم قدرتهم على تحقيق هذه القيم .هذا إلى جانب الاستلاب الثقافي، حيث يصبح الأفراد مستلبين ثقافياً عندما يتبنون قيماً غريبة عن مجتمعاتهم مما يؤدي إلى أزمة هوية.. هذا يؤدي إلى أزمة هوية وإحساس بالغربة داخل أوطانهم. وأيضاً تآكل الهوية الثقافية المحلية، حيث يتم استبدال القيم التقليدية بالقيم المفروضة .وإضعاف الحراك الاجتماعي حيث تجعل الهيمنة الثقافية التغيير الجذري صعباً، حيث يتم قبول النظام القائم كأمر حتمي. وتعزيز التبعية حيث تُسهم الهيمنة الثقافية في تعزيز التبعية للدول الغربية، حيث تُصبح المجتمعات النامية معتمدة على النموذج الغربي في جميع جوانب الحياة.
إن نجاح الرأسمالية في تحويل القيم البرجوازية إلى معايير عالمية اعتمد على قدرتها على تصوير هذه القيم كطبيعية وحتمية. يتم تقديم مفاهيم مثل الحرية الفردية، والملكية الخاصة، والسوق الحرة على أنها ضرورات طبيعية للتطور البشري، وليس كاختيارات أيديولوجية.
أخيراً استخدام الدول الغربية للثقافة كوسيلة للهيمنة الأيديولوجية هو جزء لا يتجزأ من إستراتيجيتها لتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي. حيث تعتمد هذه الهيمنة على قوة ناعمة تُعيد تشكيل المجتمعات بما يخدم المصالح الغربية، وذلك لإضعاف التنوع الثقافي وترسيخ التبعية. لذلك فإن استخدام الرأسمالية للثقافة كأداة للهيمنة الأيديولوجية يعد من أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات الإنسانية اليوم. حيث يتم العمل على تحويل القيم البرجوازية إلى معايير عالمية، الأمر الذي يؤدي إلى طمس التنوع الثقافي وتعزيز الهيمنة الاقتصادية والسياسية للنخب. حيث تصبح الهيمنة ثقافية أكثر قوة من الهيمنة العسكرية أو الاقتصادية. ولمواجهة هذه الهيمنة، يجب تعزيز الوعي النقدي والثقافة البديلة من خلال التعليم، والإعلام، والتعاون الثقافي الذي يعكس التنوع العالمي بدلاً من الانصياع لنمط ثقافي واحد. التي تعكس القيم الجماعية والتنوع الثقافي، مع مقاومة أي محاولة لفرض معايير أيديولوجية أحادية على المجتمعات. كما تحتاج المجتمعات لمواجهة هذه الهيمنة، إلى إعادة تقييم علاقتها بالثقافة والرأسمالية، والعمل على حماية هويتها وقيمها الأصيلة من التهديدات التي تفرضها العولمة الرأسمالية.