الإعلام والدبلوماسية
الكاتب: د. دلال صائب عريقات
القوة الناعمة تعرف المنتصر هو من تربح روايته، على اعتبار ان منصات الإعلام والتواصل هي أرض المعركة !
الهدف هو التأثير في الجمهور، خلق صورة إيجابية لسياسات ونظام الدولة، على افتراض أنه إذا تم إقناع الرأي العام في المجتمع المستهدف بقبول هذه الصورة، فسوف يمارس ضغطًا على حكومته لتغيير مواقفها وسياساتها. تستخدم الحكومات وسائل الاتصال الخاصة بها لإحداث هذا الاختراق في الجماهير باستخدام محطات الإذاعة او التلفزة تحت إطار الدبلوماسية العامة. استخدام الدبلوماسية العامة كأداة لتشكيل الرأي العام العالمي نضج خلال فترة الحرب الباردة، مع التركيز على البث الدولي في الإعلام التقليدي فشهدنا تطور في توظيف دبلوماسية الإعلام لكسب المعركة في عقول الجماهير ما بين الأيديولوجيات الأمريكية والسوفيتية.
استخدمت دبلوماسية الاعلام بشكل واسع لتشكيل مواقف الرأي العام في جميع أنحاء العالم، كان سلاحهما الرئيسي هو البث الدولي، بما في ذلك محطات إذاعية مثل "صوت أمريكا " (Voice of America)، "راديو الحرية " (Radio Liberty)، و"راديو أوروبا الحرة" (Radio Free Europe) على الجانب الأمريكي، و"راديو موسكو" (Radio Moscow) على الجانب السوفيتي. في أواخر الثمانينيات، أضافت الحكومة الأمريكية برامج تلفزيونية خارجية مثل "وورلد نت" (Worldnet) و"ديالوج" (Dialogue) إلى ترسانتها من قنوات الإعلام الخاصة بالدبلوماسية العامة. كما أنشأت إدارة الرئيس ريغان "راديو وتلفزيون مارتّي" (Radio and Television Marti) بهدف زعزعة استقرار نظام كاسترو في كوبا. فيما بعد، أسس الرئيس بيل كلينتون "راديو آسيا الحرة" (Radio Free Asia) بهدف تعزيز الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان في الصين، و"راديو العراق الحر" (Radio Free Iraq) لإضعاف نظام صدام حسين.
الإعلام اليوم هو أحد أهم الوسائل، حيث بات أداة تواصل مؤثرة وسلاحًا يُستخدم لتشكيل الرأي العام أو تغييره. في العلاقة مع الدبلوماسية، يعتقد البعض أنه ليس من مهمة الدبلوماسي أن يكون إعلامي ولكنني أوكد علمياً وأكاديمياً وعملياً ان الاعلام أداة أساسية لنجاح الدبلوماسي خاصة في ظل التطور التكنولوجي والإعلام الرقمي والذكاء الاصطناعي مع توفر الأجهزة الذكية في متناول الجميع وفورية التواصل بالمجان.
مع هذا التطور، تتفاقم التحديات الإعلامية، نواجه مأزق "أخلاقيات" الإعلام، قوننة الإعلام من ناحية مهنية لتحديد الحقوق والواجبات من جانب، ونصطدم بالحريات ومبادئ النيوليبرالية الحديثة، ورفض تكميم الافواه من جانب آخر. في ظل التناقضات، نجد أن الدفاع عن الحقيقة يحتاج إلى شجاعة ومعرفة. المواجهة ليست مجرد صدام وثرثرة واجترار أفكار بل هي بمثابة مناظرة، هي جهد مدروس يعتمد على تقديم الحقائق بوضوح وشفافية، واحترام اختلاف الآراء دون الدعوة لإلغاء الآخر. هذه المبادئ تُشكل أساسًا لدبلوماسية الإعلام، التي لا تسعى لإسكات الأصوات، بل لتقديم رواية صادقة وقوية تستند إلى الحجة والبرهان. وهذا ما نعرفه أكاديمياً بالتواصل الاستراتيجي حيث أن المقصد من الإعلام ليس فقط نقل رسائل ولكن اقناع الجمهور وهذا يجب أن يستند للمنطق والحقيقة ليصل لدرجة التأثير المرجوة والتي تتجاوز حدود الأذنين مخترقة العقل الذي نفكر به والقلب الذي نهتدي به.
مدرسة صائب عريقات تمثل نموذجًا حقيقيًا لدبلوماسية الإعلام والتواصل الاستراتيجي الذي يرفض الثقافة السمعية ويحترم العقول، يقبل المواجهة ليواجه التضليل بالحقيقة، والتحريف بالحجج، والفكرة بفكرة أقوى. دائمًا مستعدً بالمعلومات والوثائق التي تدعم موقفه بعيداً عن المشاعر واستمالة العواطف، بدلا من المقاطعة، تفوق على الشاشة ليدافع عن قضيته وحقه بلغة الواثق وحجة الأمين الصادق. لم يكن هدفه إلغاء الآخر، بل احترام الاختلاف حتى وهو يكشف زيف الادعاءات. هذه القيم جعلت من أسلوبه نموذجًا يجب أن يحتذى به في الإعلام الفلسطيني ودبلوماسية منظمة التحرير.
الإعلام يمثل اليوم مكونًا أساسيًا للدبلوماسية العامة، فهو يتيح للدول والقادة إيصال رسائلهم ورواياتهم إلى العالم بطريقة تفاعلية ومباشرة. ومع ذلك، يجب أن يدرك العاملون في المجال الإعلامي أن هذا السلاح ذو حدين: يمكن أن يُستخدم لإبراز القضايا العادلة، لكنه قد يُسيء الاستخدام إذا استُغل لنشر التضليل أو تعزيز الانقسامات. هذا من جهة الوسيلة الإعلامية أو الدولة التي توظفها كما أنه سلاح ذو حدين للسياسي أو الدبلوماسي الذي لا يتقن مهارة التواصل الاستراتيجي، ولا يملك المعرفة الكافية وكاريزما اختراق القلوب من خلال العقول.
في النهاية، الإعلام ليس فقط أداة لنقل الأخبار، بل أداة لتشكيل الوعي الجمعي وتوجيه الرأي العام.
دبلوماسية الإعلام تعني استخدام هذه الأداة بحكمة وتأثير إيجابي لتعزيز القضايا العادلة وإبراز الروايات الحقيقية. علينا أن ندرك أن الفراغ الإعلامي يملأه الآخرون، وغالبًا بما لا يخدم مصالحنا. لذا، فإن بناء إعلام مسؤول وشجاع يُعد جزءًا لا يتجزأ من دبلوماسية ناجحة. في عالم منفتح ومتصل تكنولوجيًا، نحتاج بدائل قوية قادرة على تقديم رواية حقيقية بصدق وقوة. ومن هنا تأتي أهمية الاستثمار في إعلام واعٍ ومسؤول، يقدم الحقيقة بأسلوب جذاب، ويحترم عقول المشاهدين قبل قلوبهم.