ما بين الحكومة والموظفين والعمال: أزمة اقتصادية تتطلب حلولا عاجلة
الكاتب: شادي زماعره
يواجه الاقتصاد الفلسطيني منذ سنوات أزمات متراكمة ألقت بظلالها الثقيلة على بنيته ومكوناته الأساسية. تفاقمت هذه الأزمات بشكل ملحوظ منذ السابع من أكتوبر، إثر اندلاع العدوان على غزة والضفة الغربية، وما تبعه من سياسات احتلالية وممارسات عقابية طالت مختلف مكونات المجتمع الفلسطيني. زاد هذا التصعيد من تعقيد الوضع، مما عمّق التداعيات السلبية على كافة الأصعدة، حيث كانت الحكومة، العمال، والموظفون العموميون من أكثر الفئات تأثرًا بهذه الأزمة.
تواجه الحكومة الفلسطينية في ظل هذه الأزمة ضغوطًا تفوق طاقتها، حيث قُدرت فجوة التمويل التي تحتاجها بأكثر من مليار دولار، نتيجة شح التمويل الخارجي واحتجاز الاحتلال لأموال المقاصة. إلى جانب تردي الحالة التجارية التي أضعفت عملية تحصيل الضرائب، كل ذلك أدى إلى عجز الحكومة عن الوفاء بالتزاماتها المتعددة، أبرزها دفع رواتب أكثر من 160 ألف موظف في القطاع العام وتقليص قيمتها، ما انعكس سلبًا على استقرار الأسر الفلسطينية، وأدى إلى ركود في حركة السوق وانخفاض معدلات الاستهلاك بشكل عام، بالإضافة إلى التزاماتها تجاه القطاع الخاص الذي يُعتبر شريكًا أساسيًا في تحريك عجلة الاقتصاد. وصف هذا الوضع من قبل البنك الدولي بأنه الأسوأ منذ عقدين ولم يشهد له مثيل من قبل.
العمال، الشريحة الأكبر من القوى العاملة، واجهوا أزمات متتالية أبرزها إغلاق الحواجز من قبل الاحتلال ومنع الآلاف من الوصول إلى أماكن عملهم داخل الخط الأخضر. تسبب ذلك في انقطاع مصادر دخل أساسية لحوالي ربع مليون عامل، مما أثر على ما يقارب مليون فرد، بافتراض أن كل عامل يعيل ثلاثة أشخاص وحرمان السوق الفلسطيني من تدفق نقدي يقارب 18 مليار شيكل سنويا أدى غيابها الى تراجع القدرة الشرائية وتدهور الأوضاع الاقتصادية، أصبح العمال غير قادرين على تلبية احتياجات أسرهم الأساسية.
هذه المعاناة لم تتوقف هنا، حيث إن سوق العمل المحلي غير قادر على استيعاب العمال العاطلين عن العمل، مما رفع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة. ضعف القوة الشرائية وتعطل العمالة أثر بشكل مباشر على النشاط التجاري، مما عمّق الأزمة الاقتصادية بشكل أكبر.
العمال كانوا في الماضي العمود الفقري للاقتصاد، واليوم هم بحاجة إلى الدعم والمساندة أكثر من أي وقت مضى. يجب على الجميع العودة إليهم، مساندتهم، والعمل معهم على خلق فرص جديدة تساهم في دعم الاقتصاد الفلسطيني في هذه الفترة الصعبة.
موظفو القطاع العام ازدادت معاناتهم بشكل ملحوظ، فهم من المتأثرين الرئيسيين بالحصار المالي الذي سبق الحرب، وقد تفاقمت أوضاعهم بشكل كبير منذ 7 أكتوبر بسبب الأزمة الاقتصادية الناجمة عنها. واجهوا تأخيرات إضافية في صرف الرواتب وتقليص قيمتها، مما أثر بشكل مباشر على قدرتهم على تلبية احتياجات أسرهم الأساسية. كما أدت هذه الظروف إلى زيادة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية عليهم، حيث أصبح الوفاء بالتزاماتهم المالية، مثل سداد القروض أو المصاريف الشهرية، بالغ الصعوبة. بالإضافة إلى ذلك، انعكست هذه الأزمة على قدرتهم وعطائهم في العمل، خاصة في القطاعات الخدمية.
الممارسات الإسرائيلية فرضت إغلاقًا شبه كامل للحواجز والطرق، مما أدى إلى تعطيل النشاط الاقتصادي بين المدن والقرى. هذا الواقع تسبب في زيادة الأعباء على التجار، حيث ارتفعت الأسعار وتراجعت قدرة المواطنين على تحملها. القطاع الخاص لم يكن بمنأى عن هذه الأزمات. ضعف القوة الشرائية وتعطل العمالة وعدم استقرار الاقتصاد جعل القطاع الخاص يعاني بشكل كبير، خاصة المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تُعتبر محركًا أساسيًا للنمو في الاقتصاد الفلسطيني. جزء من هذه المشاريع أُغلق، وما تبقى مهدد بالإغلاق، مما عمق الأزمة الاقتصادية بشكل أكبر. كما أن القطاع المصرفي يعاني من ارتفاع أرقام الشيكات المعادة وتعثر القروض.
رغم تشخيص الأزمات بدقة، إلا أن الحلول العملية تبقى قليلة. تعزيز الشفافية والثقة الدولية يُعد من أبرز الحلول الممكنة. يجب على الحكومة الفلسطينية تبني أنظمة شفافة لإدارة الأموال والنفقات وفاتورة الرواتب، والتركيز على الأولويات الحيوية لاستعادة الدعم المالي الدولي. دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة يمكن أن يكون عاملًا أساسيًا لتحريك الاقتصاد، من خلال تقديم قروض ميسرة ومنح مالية وتسهيلات للمشاريع الجديدة والقائمة. بالإضافة إلى ذلك، يجب توفير فرص عمل للعمال عبر توسيع برامج تمويل مثل "بادر"، وتنفيذ برامج تشغيل مؤقتة ومشاريع تنموية صغيرة.
تحفيز الاستثمار المحلي يُعد خطوة ضرورية، حيث يمكن تحقيق ذلك عبر تقديم ضمانات اقتصادية وقانونية للمستثمرين، ووضع قيود على التحويلات المالية للخارج التي ارتفعت منذ بداية الحرب مع توفير ضمانات للأموال المستثمرة محليًا. إعادة النظر في سياسة الضرائب على المشاريع الصغيرة والمتوسطة من خلال تخفيضها أو تقديم إعفاءات مشروطة بخلق فرص عمل جديدة، قد يساعد أيضًا في تحسين الوضع الاقتصادي.
فيما يتعلق بموظفي القطاع العام، يجب أن تكون الحكومة أكثر مرونة في قراراتها، مثل السماح لهم بالعمل في وظائف أخرى دون قيود صارمة، وتقديم تسهيلات على القروض ومنع فرض فوائد إضافية. يجب كذلك تخفيف أعباء التنقل عليهم من خلال دعم مالي أو تخفيض تكلفة المواصلات.
الوضع الراهن يتطلب إرادة سياسية قوية وإدارة فاعلة تضع مصلحة المواطن والاقتصاد الفلسطيني في صدارة اهتماماتها. الهدف الأسمى من جميع الجهود هو تثبيت المواطن في وطنه من خلال تأمين حياة كريمة وفرص اقتصادية مستدامة.
لا يمكن إنكار أن الاحتلال يسعى بشكل منهجي إلى تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها عبر ضرب جميع مكونات الاقتصاد والمجتمع. ومع ذلك، تبقى المسؤولية على الجميع – الحكومة، القطاع الخاص، والمجتمع المدني – للعمل معًا لإيجاد حلول عملية تُعيد بناء الثقة وتحرك عجلة الاقتصاد نحو مسار أكثر استقرارًا وازدهارًا.