البجع الاسود
الكاتب: د. محمد عودة
قبل الدخول في استقراء مستقبل المنطقة عطفا على التطورات الدراماتيكية خلال ما يزيد عن عام وشهرين خاصة ما جرى مؤخرا في سوريا الحبيبة والذي ولد مزيج من الشعور بالفرح والخوف، فرح لان الشعب الذي عانى خمسة عقود استطاع ان يتخلص من طاغية، وشعور بالخوف من المؤشرات فيه تبعث على القلق والخشية من نجاح إسرائيل في تجسيد أحد اهم مشاريع الاستعمار في الوطن العربي وهنا أعنى مشروع برنارد لويس يستهدف الوطن العربي واهم ثلاث حلقات في ذلك المشروع مرتبطة بكل من مصر سوريا والعراق.
بُني المشروع على إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية على أسس عشائرية وطائفية ومن ثم إعادة احتلال المنطقة تحت ذريعة تدريب شعوبها على الحياة الديمقراطية، والعمل على استثمار التناقضات العرقية والعصبيات القبلية والطائفية خدمة للمشروع الاستعماري.
مشروع برنارد لويس لتقسيم المنطقة يتقاطع مع مشروعات عديدة، مماثلة، ربما بنيت على نفس أسس مشروع برنارد لويس وربما استلهمت المشاريع المشار اليها السياق العام لمشروع برنارد لويس، أو ربما هناك انسجام فكري بين المنظّرين الكبار، وما تنتجه مراكز دراسات ذات طبيعة عسكرية واستخباراتي، لكن المهم هنا أن فكرة تقسيم الوطن العربي تحتل مكانة هامة في مراكز صنع القرار الأمريكي خاصة البيت الأبيض والبنتاغون.
في عام 1980 صرّح زبغنيو بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي، انه من الضروري تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش حرب الخليج الأولى تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود سايكس – بيكو هذا التصريح الهم برنارد لويس لصياغة مشروعه الشهير الخاص بتفكيك الدول العربية والإسلامية جميعا على مراحل ومنها العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان وإيران وتركيا وأفغانستان وباكستان والسعودية ودول الخليج ودول الشمال الإفريقي ...الخ، وتفتيت هذه الدول الى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية، وقد أرفق بمشروعه المفصل مجموعة من الخرائط المرسومة تشمل الدول المرشحة للتفتيت حيث :-
1- تقسم السودان الى أربع دويلات، للنوبة، والشمال السوداني الإسلامي، والجنوب السوداني المسيحي، ودويلة دارفور.
2- دول الشمال الإفريقي، يتم تفكيك ليبيا والجزائر والمغرب بهدف إقامة دويلة البربر، ودويلة البوليساريو، والباقي دويلات المغرب والجزائر وتونس وليبيا.
3- تفكيك دولة العراق على أسس عرقية ومذهبية، فتنشأ دويلة شيعية في الجنوب حول البصرة، ودويلة سنية في وسط العراق حول بغداد، ودويلة كردية في الشمال.
4- تُقسم سوريا الى أقاليم متمايزة عرقيا أو دينيا أو مذهبيا، فتنشأ دويلة علوية على امتداد الساحل، ودويلة سنية في منطقة حلب، وأخرى سنية حول دمشق، ودويلة الدروز على أجزاء من سوريا ولبنان ودولة كردية بمحاذاة العراق.
5- يسعى المشروع الى ابتلاع فلسطين وتهجير سكانها الى الأردن ونقل سلطة الدولة الأردنية الى الفلسطينيين.
فمن اجل الإبقاء على إسرائيل كقوة مهيمنة اقتصاديا وعسكريا واطالة عمرها برزت فكرة تفكيك الكيانات السياسية الكبيرة في الوطن العربي، وخاصة دول مثلث القوة العربي (مصر – سورية – العراق) إلى كيانات أصغر تتكفل القوى الغربية بتأجيج الصراعات على الحدود والثروات فيما بينها إضافة الى العمل على تغيير كيمياء الصراع العربي الصهيوني إلى صراع عربي عربي على أسس مذهبية أو طائفية، وإدخال إيران بدلا من "إسرائيل" في دائرة الصراع.
من الضرورة بمكان الإشارة الى ان الشعوب العربية المغلوب على امرها حاولت ولا زالت تحاول افشال هذه المشاريع الا أن وجود عوامل داخلية وأنظمة مرتبطة تشجع على تمرير وتنفيذ هذه المخططات، فاللعب على النعرات الطائفية أو الخلافات المذهبية لا يمكن أن يتحقق إلا في وجود عناصر ومؤثرات تدفع في اتجاه التفتيت والتقسيم والترهل في بنية الدولة، وليس هناك إلا حل واحد هو اعتماد أسس بناء الدولة الحديثة وحماية مقومات الدولة الوطنية التي تتعرض إلى كافة أشكال الهدم والتقويض.
ان التصدي لكل هذه المشاريع وافشالها يحتاج الى بناء مجتمعات عربية ديموقراطية، وإقرار مبادئ العدالة الاجتماعية، وحماية حقوق الإنسان تشريعيا وتنفيذيا، والحرص على تطوير التعليم والبحث العلمي كخطوة على طريق توحيد هذه المجتمعات العربية ضمن تكتل جغرافي، سياسي واقتصادي يؤدي الى وحدة المنطقة مما يؤهلها لان تسهم فعلا في عالم متعدد الأقطاب أكثر عدلا وانصافا من عالم تحكمه قيم باليه في طريقها الى الاندثار بغية ترسيخ التبعية عبر الترويج لقيم الانحلال التي تتبناها الدولة العميقة في العالم.
وفي الختام لا يمكن لعاقل ان يكتب اليوم دون تعليق الجرس خشية على منطقتنا من الانزلاق طوعا نحو تجسيد مشروع برنارد لويس، ان التخلص من الديكتاتوريات امر في غاية الأهمية ان كان سياتي بدولة عصرية فيها كل ما ذكر في الفقرة السابقة. وهنا لا بد من تهنئة الشعب السوري الشقيق على الإنجاز المتمثل في الخلاص الطاغية على امل ان لا يكون الشعب ضحية مرة أخرى لأقطاب لا تريد خيرا لسوريا. فالناتو لا يمكن الا ان يكون حليفا لإسرائيل. فما تقوم به إسرائيل من تدمير لمقدرات الشعب السوري كمراكز الأبحاث ومعامل الطاقة وصولا الى تدمير كل مقومات الدفاع عن النفس، كل ذلك لا يمكن ان يحصل دون موافقة أمريكا وتركيا، فالشعب السوري بكل قواه مطالب بالحفاظ على سوريا عربية حرة موحدة.