قراءة مبتورة للعاصفة السورية
الكاتب: عمر حلمي الغول
التطور الدراماتيكي في سوريا أول أمس 8 كانون أول / ديسمبر الحالي كان تحولا نوعيا، حيث طويت صفحة من التاريخ السوري امتد لما يزيد عن خمسة عقود. لكنه يحمل في طياته الغاما عديدة ناتج عن القوة التي قادته، كونها قوة تتلفع بثوب الإسلام شكليا، وهي في الحقيقة إحدى أدوات الولايات المتحدة الأميركية والغرب عموما وعلى علاقة عميقة مع دولة إسرائيل، أي هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولاني، وبسبب التناقضات الجوهرية بينها وبين قوى المعارضة السورية الوطنية والقومية والديمقراطية، ورغم ان أحمد الشرع وقيادته التابعة للنظام التركي يدعون الحرص والاستعداد للتعاون مع الوان الطيف السياسي السوري حاليا، لكنهم اسوة بتجربة نظام اردوغان، الذي رفع شعار "صفر مشاكل" في بداية حكمه عام 2002، الا انه ارتد عن ذلك، وتورط في تناقضات داخلية وخارجية مع الدول العربية ودول الإقليم عموما، وبالتالي لا يمكن الرهان على مصداقية ما يعلنون من مواقف إيجابية تجاه الشعب والقوى السياسية.
واستوقفني في هذا الصدد أكثر من موقف أعلنه أستاذ علم الاجتماع السياسي في السوربون، د برهان غليون، أحد قادة المعارضة السورية، منها ما أعلنه بالأمس الاثنين 9 كانون اول / ديسمبر الحالي على قناة العربي الدولي، وجاء فيه "اعتقد أن المتطرفين ما داموا أبناء البلد والمجتمع، فهم قادرون على تفهم مطالب شعبهم" وتابع " وإذا كان التطرف هو نتاج شروط اجتماعية وسياسية، فإنه يمكن لشروط الحرية الجديدة أن تدعو الى التسامح والتفاعل مع الآخرين والإيمان بقيم الحرية والعدالة، وهذا يحتاج الى دور النخب والمثقفين (...) ينبغي المراهنة على النزوعات الإيجابية لدى الحركات الإسلامية." وهذا خلط فاضح في فكر غليون بين الدين الإسلامي السمح ونزعاته الإيجابية، وبين الجماعات الإرهابية المتطرفة، التي أنشأتها وأسستها أجهزة الأمن الأميركية والإسرائيلية، والمحكومة بأجندة اسيادها ومموليها.
وعلى ما يبدو، أن المفكر غليون لم يقرأ تاريخ جماعة الاخوان المسلمين جيدا، ولم يلم بتجاربهم مع مختلف الدول العربية والإسلامية، التي وجدوا فيها، ولم يستفد من متابعته للجماعات التي تناسلت من رحمها، والجرائم التي ارتكبوها بحق شعوبهم، أو لنقل إنه قفز عن سابق تصميم وإصرار عن ذلك، ليعمم رؤيته القاصرة والعدمية، بحكم موقفه العدائي لنظام بشار الأسد السابق، وأسقط رغباته الارادوية على المشهد الجديد بعيدا عن المنطق والمنهجية العلمية في قراءة التحول غير الإيجابي، الذي لا يمت بصلة لمفهوم الثورة الشعبية. رغم ان الشعب السوري بقطاعاته الأوسع كان معنيا بالتخلص من نظام آل الأسد، وخرج يهتف لسقوط النظام السابق، ولم يعي التداعيات الخطيرة التي ستلم به لاحقا.
ولكن أجزم أن الشعب السوري العظيم وقواه الحية، الذي هتف لرحيل نظام بقايا البعث المتآكل، كان ومازال بحاجة ماسة للنخب السياسية الوطنية والمثقفة لترشيد وعيه، وتنبيهه لأخطار الجماعات الإرهابية والتكفيرية، التي قادها ويقودها الجولاني وأضرابه من تنظيم القاعدة وتفرعاتها المتشعبة، وعدم الاندفاع العاطفي اللحظي وراء تهافت الشعارات الفارغة المضامين لتضليل الشعب. لأن مستقبل سوريا الإيجابي لا يمكن ان تقوم له قائمة تحت راية تلك الجماعات بحكم ارتباطاتها وأجنداتها الإقليمية والدولية، التي تستهدف استقلال وسيادة الدولة السورية، ووحدة الشعب والوطن والحرية والديمقراطية والتنمية المستدامة.
وأول الغيث رايناه جميعا بتمدد إسرائيل الاستعمارية فوق النازية في القنيطرة والجولان كله، ليس هذا فحسب، بل ان نظام الجماعات الإرهابية بقيادة الجولاني سيفتح أبواب سوريا على مصاريعها أمام إسرائيل والولايات المتحدة ودول الغرب الامبريالي لنهب ثروات وخيرات سوريا، والتطبيع المجاني مع إسرائيل. وهذا ما لم يفعله نظام آل الأسد حتى رحيل الرئيس بشار أول أمس. ولو فعلها لما سقط النظام. رغم الأخطاء والخطايا التي ارتكبها النظام السابق بحق الشعب السوري الشقيق.
ولم يقتصر الامر على غليون لوحده، فهناك الكثيرين ممن تساوقوا معه، ومع رؤيته العدمية والقاصرة والمتعامية عن ركائز الفكر الديمقراطي، وعن العدالة الاجتماعية والإنسانية، لأنهم لم يقرأوا اللوحة السورية بشكل كامل، انما لجأوا للقراءة المبتسرة أحادية الجانب، وبالضرورة المستقبل المنظور سيصدمهم ويعيدهم عما قريب لرشدهم، إن أرادوا، والا سيبقون في غيهم وعنادهم في معاندة الحقائق ومرتكزات الفكر السياسي الإيجابي والمعبر عن تطلعات الشعب.
باختصار هذه ليست ثورة بالمعنى الثوري الحقيقي، هذه انعطافة في مسار المجتمع السوري تحمل في طياتها من الاخطار والتشوهات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية أكثر بكثير مما كان عليه الواقع السابق، وبالتالي مطلوب الاستعداد من الآن للثورة الاجتماعية السورية في قادم الزمان لتصويب مسار حركة التاريخ ومكانة سوريا العربية.