وقف إطلاق النار ودروس من المقاومة اللبنانية
الكاتب: مروان طوباسي
أخيراً، دخل وقف إطلاق النار على جبهة لبنان حيّز التنفيذ، وهو اتفاق غير قابل للتنبؤ باستدامته بالنظر إلى طبيعة دولة الاحتلال وسياساتها. فبينما أعلن نتنياهو قبوله للقرار، غابت عن خطابه أية إشارات تدل على تحقيق نصرٍ واضح أو إنجاز استراتيجي ملموس. لقد كان خطاب القبول أقرب إلى التبرير منه إلى الاحتفال بالنصر، مما يعكس شعوراً بعدم الثقة بالنفس والتخبط والخلاف في صفوف القيادة الإسرائيلية السياسية والأمنية وشعور 70% من الإسرائيليين بعدم تحقيق أي انتصار وفق الاستطلاعات المعلنة.
فرغم محاولات إسرائيل لإظهار قبولها للاتفاق كخطوة تكتيكية، فإن الحقيقة تكمن في خسائرها المتعددة والمتراكمة على كافة المستويات. ما حققته المقاومة اللبنانية في هذه المواجهة يتجاوز مجرد إلحاق الخسائر بإسرائيل. انتصار المقاومة لا يُقاس بمنطق الجيوش النظامية أو بحجم الخسائر العسكرية التي تكبدها العدو، بل كان انتصارها الحقيقي في منع إسرائيل من تحقيق أهدافها الكاملة التي أعلنت عنها، رغم الخسائر التي تكبدتها المقاومة نفسها. وهذا هو حال جميع حركات المقاومة عبر التاريخ التي قدمت تضحيات جسام من أجل قضاياها، وهو أمرٌ ينطبق عليه مقولة ثعلب الدبلوماسية الأمريكية كيسنجر.
لقد استطاعت إسرائيل تنفيذ اغتيالات طالت عدداً من قيادات الصف الأول للمقاومة، لكنها لم تتمكن من شل البنية التحتية للمقاومة وقدراتها القتالية بشكل كامل كما كانت تأمل وتُعلن، على الرغم من محاولاتها المتكررة لضرب المخزون الاستراتيجي. وفي المقابل، حافظت المقاومة على قدراتها الردعية وواصلت تصعيد العمليات الميدانية، خاصة في الأيام الأخيرة التي شهدت دقة متناهية في ضرب أهداف إسرائيلية عميقة وحيوية. وبذلك، فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها الاستراتيجية المعلنة منذ بداية العدوان، مما دفعها إلى إعادة تقييم استراتيجياتها والتراجع نحو القبول باتفاق وقف إطلاق النار الذي جاء كمحصلة عملية تفاوضية معقدة دون معادلة النصر الكامل لأي طرف.
رفع كلفة الاحتلال والوحدة، أداة المقاومة الفعّالة
ما تحقق في هذه المواجهة يُظهر أن المقاومة اللبنانية نجحت في رفع كلفة الاحتلال إلى مستويات غير مسبوقة. فملايين الإسرائيليين اضطروا إلى دخول الملاجئ، كما تعطلت الحياة العامة في مناطق واسعة، وأُلحقت خسائر ضخمة بالبنية التحتية الإسرائيلية. في الوقت نفسه، تكبدت إسرائيل خسائر بشرية واقتصادية وسياسية كبيرة دفعتها إلى التراجع، بالتزامن مع ازدياد الضغط الأمريكي والدولي عليها، وازدياد عزلتها ووقوفها أمام القضاء الدولي وصدور قرارات التوقيف بحق نتنياهو وغالانت بعد كل جرائم الحرب وتحديداً ضد شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة والتي تستمر حتى اليوم دون تدخل دولي لوقفها.
إن هذا الارتفاع في الكلفة لم يكن مجرد نتيجة للضربات العسكرية الدقيقة التي وجهتها المقاومة، بل هو ثمرة للتنسيق السياسي الداخلي الذي عكس وحدة الموقف اللبناني ووحدة مكونات دولته من الحكومة والجيش والبرلمان، مما عزز من شرعية المقاومة في أعين الشعب اللبناني والعالم. فقد استطاعت المقاومة اللبنانية الموحدة أن تقاوم بقوة في الميدان، وأن تبني موقفا داخلياً متماسكاً، وهو ما كان له دور كبير في إحراج إسرائيل على الصعيدين العسكري والدبلوماسي.
دروسٌ للمقاومة الفلسطينية
في ظل هذه التجربة، يبرز النموذج اللبناني كدرس بالغ الأهمية لحركة حماس والمقاومة الفلسطينية عموماً. إن انتصار المقاومة لا يعني تفادي الخسائر أو تجنب الاستهداف، بل يكمن في منع الاحتلال من تحقيق أهدافه الاستراتيجية. لقد أظهر حزب الله قدرة استثنائية على تحقيق هذا التوازن بين العمل العسكري وبين مكانته السياسية الداخلية بالدولة، حيث نجح في الحفاظ على دعم شعبي ورسمي قوي وبيئة حاضنة، بل وزاد من شرعية مكونات الدولة اللبنانية ومكانتها المحلية والدولية.
على حركة حماس أن تأخذ هذا النموذج بعين الاعتبار لتجنب تحميلها المسؤولية الكاملة عن الأضرار التي تلحق بالشعب الفلسطيني جراء جرائم ومحارق الاحتلال اليومية المستمرة وغير المسبوقة التي جعلت غزة مكانا غير قابل للحياة. يتطلب ذلك ترك الرؤية الفئوية والارتباط بحركات دولية، والبدء في تبني استراتيجية وطنية شاملة تراعي فلسطين كقضية ووطن وشعب واحد، وتساهم بشكل جدي بترتيب البيت الفلسطيني الداخلي عبر شراكة وطنية حقيقية تعزز مفهوم ومضمون الوحدة الوطنية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية صاحبة المكانة التمثيلية والولاية القانونية على كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، لتجسيد وحدة واستقلالية القرار الوطني الفلسطيني وفق برنامج سياسي جامع يعتمد على آليات واضحة تستند إلى الدور التحرري لمنظمة التحرير ورؤية وثيقة إعلان الاستقلال وقرارات المجالس الوطنية والمركزية المتعاقبة، ليكون الكل الوطني في إطارها وجزء منها وليس خارج عنها للتمكن من تطوير وإعادة بناء منظمة التحرير كإطار جبهوي وطني واسع وديمقراطي وفاعل وفق ما تأسست عليه المنظمة عام 1964.
اعتقد في هذا المجال بضرورة قيام الرئيس أبو مازن بصفته رئيس الشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير بتوجيه دعوة عاجلة إلى لقاء وطني موسع يشمل كافة القوى والفصائل الفلسطينية والقطاعات الاجتماعية والاقتصادية وتحديداً الشبابية منها في حال تعذر الدعوة لاجتماع مجلس وطني في هذا الظرف رغم أهمية ذلك فور التمكن منه، بما يهدف إلى بلورة رؤية وطنية واحدة مشتركة تعتمد على الحفاظ على الثوابت الفلسطينية وآليات الوصول إلى حقوق شعبنا غير القابلة للتصرف في ظل المتغيرات المتسارعة إقليمياً ودولياً وصياغة التحالفات المطلوبة مع أصدقاء شعبنا من الدول والقوى الشعبية حول العالم لمواجهة مشاريع الاحتلال التي تهدف إلى تقسيم غزة واستمرار حصارها وعزل مناطق منها وعودة الاستيطان إليها، وضم مناطق من الضفة الغربية وجعل ما تبقى منها معازل جغرافية لمنع اقامة الدولة المتواصلة ذات السيادة. لتشكل تلك الاجتماعات مرجعية التوجهات السياسية العقلانية وإجراءات إصلاح النظام السياسي من خلال إجراء الانتخابات في أقرب فرصة ممكنة وقريبة حتى لا يتسم الاعلان الدستوري الأخير بتفسيرات عدة.
نحو أفق جديد للمواجهة
المعركة مع الاحتلال الإسرائيلي لا تقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل تمتد أيضاً إلى السياسة والاقتصاد والقانون والرأي العام. وهذا يتطلب رؤية فلسطينية موحدة، والضغط الفلسطيني الواضح من أجل موقف عربي بتوسعٍ إسلامي تحديداً مع تركيا وإيران بالاستفادة من رغبتهم بالمكانة الإقليمية وحوارهم الجاري مع الغرب، للوصول إلى موقف موحد يرتقي إلى مستوى المخاطر التاريخية على القضية الفلسطينية وعلى كل المنطقة أمام الأطماع الأمريكية بالهيمنة والسيطرة بشراكتها الإستراتيجية مع الاحتلال لتنفيذ المشروع الصهيوني. كما والاستفادة من العمل والرؤية الدولية الجارية لإنهاء أحادية القطب الأمريكي والتحالف مع مكونات هذه القوى الصاعدة في وجه الغطرسة وإثارة الحروب.
أي غياب لضرورة التزام حركة حماس من مراجعة مواقفها ومن الاستحقاق الوطني الواجب لهذه الرؤية الشاملة سيُبقي الوضع الفلسطيني في حالة من الضعف أمام الاحتلال وأطماعه التوسعية، خاصةً مع الدعم الأمريكي اللامتناهي ومشاريع ترامب المقبلة، بما في ذلك النسخة الثانية من "صفقة القرن" التي تسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية بشكل كامل.
إن ما أثبتته المقاومة اللبنانية هو أن الاحتلال، مهما بلغت قوته، يبقى عُرضة للفشل إذا ما واجه مقاومة وطنية موحدة ومنظمة تكون جزءٌ من مكونات الدولة الجامعة وتركز على منع تحقيق أهدافه وتعمل على رفع كلفة عدوانه على المدى الطويل، مما يجعل تكلفة سياسات الاحتلال غير قابلة للتحمل ويصبح إنهاء الاحتلال مطلباً في شوارع تل أبيب نفسها. إن استمرار العمل على عزل إسرائيل كدولة مارقة دولياً في إطار مقاومة وفضح المشروع الصهيوني المبني على الفكر العنصري الفوقي والاستيطاني أمام العالم وبأن استمراره يشكل خطراً على السلم والأمن بالمنطقة والعالم، وإثارة مستويات من الخلافات والتناقضات داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه مسألتين في غاية من الأهمية، حتى يصل الإسرائيليين بأنفسهم ويدركوا بأن شعباً يضطهد شعبا آخر أو شعوباً أخرى لا يمكن أن يكون هو نفسهُ حراً، وبأن المشروع الصهيوني في فلسطين لن يجلب لهم الاستقرار والسلام والمكانة الطبيعة غير المارقة.