الأثمان دُفِعت في لبنان: لماذا التراجع ومنح انتصار للاحتلال؟
عندما دخلت المقاومة اللبنانية معركة إسناد المقاومة الفلسطينية في غزة في الثامن من أكتوبر العام الماضي، كانت تُدرك أن هذه المعركة، رغم كل حرصها على عدم اتساعها، قد تتطور لمعركة كُبرى معها وفي الإقليم أيضاً.
صحيح أنها أخطأت التقدير، كان لديها مثلاً ثقة زائدة بأن الاحتلال لن يجرؤ على إعلان حرب شاملة عليها، لأن جيشه قد أُنهك في غزة، وأن رسائل الردع التي أرسلتها من خلال «الهدهد» و»منشآت عماد»، وقدرتها على ضرب أهداف في أي مكان في دولة الاحتلال كافية لمنع هذه الحرب— وقد يكون ذلك ناتجاً عن معلومات مُضللة وصلتها عبر قنواتها السياسية، إلا أنها كانت تضع احتمالاً أن الحرب الشاملة قد تحدث، لذلك كانت تؤكد أنها جاهزة لها ولا تخشاها إن حدثت.
لقد كان الحرص على تجنب الحرب الشاملة نابعاً من رغبة المقاومة في منع تدمير قرى الجنوب اللبناني والبقاع والضاحية وبيروت، وحتى لا يتم تهجير وتشريد حاضنتها الشعبية والشعب اللبناني عموماً.
لكن هذا الحرص لم يمنع الحرب الشاملة. بدأت الحرب بالتدحرج تدريجياً، بداية باغتيال فؤاد شكر نهاية شهر تموز الماضي، ثم بتفجيرات البيجر في ١٧ أيلول التي هدفت الى القضاء على خمسة آلاف مقاتل على الأقل بضربة واحدة، وأعقب ذلك اغتيال إبراهيم عقيل، ثم وفي ٢٧ أيلول تم اغتيال حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله.
وباغتياله واغتيال القادة التاريخيين الآخرين، ووقوع الحرب الشاملة بما نتج عنها من تدمير لقرى الجنوب اللبناني والبقاع والضاحية وصولاً لبيروت، وتهجير أكثر من مليون لبناني، فإن كل ما حرص حزب الله على تجنبه ومنعه، قد حصل.
لقد كان هذا الثمن كبيراً ومرعباً، لكنه لم يكن مفاجئاً لأن المقاومة اللبنانية كانت تعلم ما يقوم به الاحتلال في غزة من حرب إبادة، وكانت تدرك أن سلوك الاحتلال معها سيكون مماثلاً أو حتى مضاعفاً في إجرامه بسبب إمكانياتها العسكرية الأكبر.
لقد دفع حزب الله والشعب اللبناني الثمن الذي كان يعلم بأنه قد يدفعه بفعل مشاركته في معركة إسناد غزة، والسؤال الآن هو: إذا كانت الأثمان قد دُفعت كاملة، لماذا التنازل لدولة الاحتلال بفصل جبهة لبنان عن جبهة غزة، وبما يُقدمه ذلك من انتصار جلي لدولة الاحتلال؟
نتساءل الآن لأن حديث المفاوضات بين لبنان ودولة الاحتلال من خلال «الوسيط» الأميركي تتمحور حول قرار مجلس الأمن رقم (١٧٠١) ولا يوجد فيها ما يربط وقف الحرب في لبنان بوقفها في غزة.
أول من أمس تحدث الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، وأشاد بصحة قرار إسناد المقاومة في غزة من الناحية الأخلاقية والدينية والإنسانية، لكنه استخدم الفعل الماضي في كلماته: لقد دعمنا غزة على مدار أحد عشر شهراً... ومنذ شهرين نخوض حرباً شاملة دفاعاً عن لبنان... وشروطنا لوقف الحرب هي وقف العدوان وحماية سيادة لبنان.
لا توجد كلمة واحدة عن وحدة الساحات... عن العلاقة بين الحرب على لبنان والحرب على غزة... عن مصير جبهات الإسناد الأخرى في اليمن والعراق.
لا نريد أن نُخمن، فالشيخ قاسم قال إنه لن يتحدث عن رد حزب الله على الورقة الأميركية لوقف إطلاق النار، لكن المبادئ التي أعلن عنها لوقف إطلاق النار، تشير إلى قبوله للفصل بين الجبهات أو الساحات.
كان من الممكن تفهم الفصل بين الجبهات لو حدث سابقاً بهدف تجنيب المدنيين القتل وحماية لبنان من التدمير. لكن ذلك لم يحدث، وهو يحدث الآن بعد أن دُفعت الأثمان جميعها، ولم يعد هنالك أثمان أخرى يُمكن للمقاومة اللبنانية وحاضنتها الشعبية أن تدفعها.
لقد استنفدت دولة الاحتلال أهدافها العسكرية في لبنان منذ أسابيع، وكل ما تقوم به اليوم هو قتل المدنيين، تماما مثلما فعلت وتفعل في غزة، بهدف إجبار المقاومة على تقديم التنازلات لها.
إن مواجهة هذا الحجم من الإجرام لا يكون بتقديم التنازلات لدولة الاحتلال على طريقة القبول بقرار مجلس الأمن رقم (١٧٠١)، فالمقاومة اللبنانية لم يكن لها مشكلة مع هذا القرار قبل دخولها معركة إسناد غزة، وكان بإمكانها أن تبقى على الحياد، وما كانت دولة الاحتلال ستطرح إعادة التفاوض عليه، أقله خلال الحرب على غزة.
لكن المقاومة اللبنانية اختارت دخول معركة الإسناد واشترطت لوقفها أن تصل دولة الاحتلال لاتفاق مع المقاومة الفلسطينية على وقف الحرب في غزة. كان هذا شرطها لوقف حرب الاسناد التي أدت لترحيل عشرات الآلاف من الإسرائيليين من البلدات التي يقيمون فيها في شمال فلسطين التاريخية وشكلت عاملاً ضاغطاً وبقوة على دولة الاحتلال.
ولقد كرر الشهيد حسن نصر الله، هذا الموقف مراراً وتكراراً في كل الكلمات التي ألقاها منذ الثامن من أكتوبر العام الماضي الى خطابه الذي ألقاه قبل أيام قليلة من اغتياله، وكان يؤكد في كل كلمة على أهمية الاستمرار في جبهة الإسناد، وأنها باقية إلى أن يتم إعلان النصر بمنع الاحتلال من تحقيق أهدافه في غزة ولبنان.
والحق أن دولة الاحتلال قد ضعفت كثيراً خلال حرب الاستنزاف، فهي خسرت قوة ردعها، وضعف جيشها، وخسرت سمعتها الدولية، وفقد مجتمعها الإحساس بالأمن، وقادتها اليوم يواجهون خطر تقديمهم للمحكمة الجنائية الدولية.
لماذا إذاً بعد دفع الأثمان وإضعاف الاحتلال يتم منحه نصراً مجانياً بالاستسلام لشروطه بفصل جبهة لبنان عن جبهة غزة، نصر لا يستطيع الحصول عليه باستمرار الحرب؟
الأصل بعد كل هذا الدمار والقتل هو أن ترفع المقاومة اللبنانية من سقف شروطها لوقف الحرب، لتتضمن بالإضافة الى وقف الحرب في غزة، انسحاب دولة الاحتلال من كامل الأراضي اللبنانية التي تحتلها بما فيها مزارع شبعا وقرية الغجر.
الأثمان دُفعت، ودُفعت كاملة، ودولة الاحتلال لم يعد بإمكانها التهديد بتدفيع لبنان وغزة أثماناً فوق التي دفعتهما. لذلك، فإن كل يوم يمضي الآن في الحرب يأخذ من قوة دولة الاحتلال ويضعفها ولا يضيف لها قوة.
لهذا من المستغرب أن يكون سقف تفاوض المقاومة اللبنانية هو القرار (١٧٠١) فهذا بمثابة إهداء انتصار مجاني لدولة الاحتلال، وهذا الانتصار لن يكون على حساب المقاومة اللبنانية وحدها، ولكن على حساب كامل محور المقاومة، وهو سيشجع دولة الاحتلال وحلفاءها على السعي الحثيث للقضاء على المقاومة في اليمن والعراق أيضاً.
إن الوفاء لتضحيات المدنيين ولشهداء المقاومة وقادتها يتطلب التمسك بوحدة الساحات وتوحيد المفاوضات، وإعلاء سقف مطالبها، لا الاستسلام لشروط دولة الاحتلال بفصل الجبهات عن بعضها.