سلوى أبوخضرة المرأة المشرقة أبدًا
الكاتب: بكر أبوبكر
هي المناضلة التي وقفت ثابتة قوية الى جانب جميع الرجال من الرواد الأوائل للثورة الفلسطينية "يدًا بيد وكتفًا الى كتف" كما كان يردد الخالد ياسر عرفات.
لم تعدم منصّة تناضل من خلالها إلا وكانت تعبّر وتطرح وتبادر وتنافح عن قضية فلسطين وأبناء فلسطين منذ كانت صبية (بسن 17 عامًا) تخرج مع اللاجئين من بلدها يافا محروقة القلب الى سوريا وبلاد العرب. ثم في إطار الثورة، وإطار الاتحاد المرأة الفلسطينية، وكل مجالات حراكها بالداخل والخارج.
سلوى أبوخضرة من جيل الثائر والخالد ياسرعرفات فهي مواليد يافا العام 1929 ميلادي (توفيت في 16/11/2024م) ، وفي طوال مسيرتها كانت وفيّة للتربية وللأدب الذي تعلمته بالجامعة، وطبّقته في تعاملاتها الراقية مع الجميع، وحلو لسانها وأسلوبها الرشيق بالحديث، وإشراقة وجهها المرحاب.
قائدة وطنية ونِدّ للرجال
كانت وفيّة لعشق فلسطين ويافا خاصة، ولمهنة التعليم سواء في دولة الكويت أو خارجها، من خلال مدرسة دارالحنان الشهيرة آنذاك (قبل الغزو العراقي عام 1990م)، والتي كانت الى جانب أنها مدرسة، أن احتضنت أيام العطلات فعاليات مؤسسة الأشبال والزهرات والفتوة التابعة لحركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح، والثورة الفلسطينية لتكون مدرسة ومركز فداء وبناء من أجل فلسطين. وكانت المدرسة كما تقول عنها أم محمود: "ملتقى للسياسيين والنشطاء الفلسطينيين من جميع فصائل العمل الوطني".
أن تنعى قائدة من قيادات الثورة الفلسطينية، وبنفس الوقت شخصية مؤسِسَة في إطار الحركة والمنظمة وفي الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية فإن "أم محمود" هي الممثل لهذه التركيبة، كما يمكن القول مع القيادات أمثال الأخوات انتصار الوزير"أم جهاد" أطال الله في عمرها، وهند طاهر الحسيني (مؤسسة دار الطفل العربي بالقدس)، وعصام عبد الهادي (من الاتحاد النسائي العربي الى الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية)، وسميحة خليل (من بُناة مؤسسة إنعاش الأسرة)، ونجلاء ياسين "أم ناصر"، ونبيلة النمر-أم اللطف، وعبيدة الكاظمي، وهند حقّي الحسيني (من قيادات العمل بالكويت) وكوكبة أخرى بقائمة طويلة من الرائدات المشرقات في مسيرة فلسطين والثورة الفلسطينية.
أم محمود سلوى أبوخضرة المرأة "المخرز" في وجه الأعداء، كما كان يسميها الراحل الشهيد فاروق القدومي "ابواللطف" كان لها صولات وجولات ليس في مساحة التربية والتعليم فقط، وليس في مساحة اتحاد المرأة فقط، وإنما في مجال صنع السياسة الفلسطينية كما أخواتها ممن ذكرنا والكثير، فلم تكن إلا صاحبة موقف مقدام وجريء ونِدّي (بمواجهة زملائها من الرجال) حين كان صوتها يرتفع قائلًا نعم أو لا في وجه القيادة، بلا رهبة ولا خوف سواء في المجلس الوطني للمنظمة، أو في المجلس الثوري للحركة وفي اللقاءات الأخرى.
لقد كانت من أوائل من استدل على فكرة "الوطنية" الفلسطينية وضرورة أن يقوم العرب الفلسطينيون أنفسهم بدور "الطليعة" و"رأس الحربة" للعمل الثوري المقاوم ما هو أصل فكرة حركة فتح والفدائي، خاصة في ظل المشاهد القاسية والقوانين العربية المجحفة آنذاك في معاملة الفلسطينيين. (في لقاء لها ضمن برنامج "المهجرون" على فضائية فلسطين مع الاعلامية سندس أحمد عام 2016م).
أم محمود ونحن بالكويت
في مرحلة من مراحل العمل مع الأخت أم محمود كنا في الاتحاد العام لطلبة فلسطين بالكويت نتوجه لها في أمور عدة من استشارات نقابية نظامية الى طلب التوسط لحضور شخصيات قيادية لقعاليات الاتحاد عوضًا عن استضافتها في الندوات والمؤتمرات التي كنا نعقدها، والى كل ذلك أن تتوسط لدى أصحاب المال الفلسطينيين هناك بدعم فعاليات الاتحاد، ولم تكن الا الداعم المؤازر بذلك، وحتى من جيبها الخاص.
في اقليم الكويت-لحركة فتح استلمت أم محمود مهمة المنظمات الشعبية، ولما كنتُ من قيادات الطلاب فلقد تواصلت معها في أحدى الانتخابات والتحالفات مع أحد الفصائل الفلسطينية الذي كان غاضبًا على الحركة ولم يجد مكانًا الا وشوّهها فيه. وكان قرار قيادة الاقليم وأم محمود في المنظمات الشعبية أن نتغاضى عن الإساءات ونقبل دخولهم للهيئة الإدارية لاتحاد الطلاب، فما كان مني والاخوة قيادة الطلاب إلا أن ضربنا عرض الحائط بهذا القرار، فلم نغفر للفصيل واستثنيناه من القائمة، ودخلنا الانتخابات وحققنا ما نريد من فوز. إلا أن أم محمود عندما اكتشفت عدم التزامنا بالقرار غضبت جدًا.
كان غضب أم محمود مبرّرًا كما أفهم اليوم، فعدم القناعة بالقرار القيادي ما كان يجب مواجهته بتمزيقه، وإن كانت النتيجة بالانتخابات باهرة. وإنما بالالتزام به أو التحاور مرة وأخرى لتعديله أو تغييره حيث علمنا لاحقًا أن الحسابات آنذاك لم تكن تأخذ بالاعتبار البلد الذي كنّا فيه فقط، وإنما ساحات عمل اخرى.
في لجنة الاقليم لحركة فتح بالكويت تسلمت كعضو لجنة إقليم منتخب مهمة المنظمات الشعبية التي كانت من مهمة سلوى أبوخضرة في الاقليم السابق، وعليه كانت هي أول المهنئين حيث ذكّرتني بما فعلتُ ضاحكةً لتقول أنها رغم ما فعلتُ أنا من عدم الالتزام، فلقد منعت قرار تجميدي من التنظيم لأنها تفهمت الأسباب لاحقًا، ولامتني على عدم المراجعة والحوار الذي كان من المفترض أن يكون سِمة العلاقة، وقد صدقت.
سلوى في إطار النضال
يقول الكاتب يوسف عبدالله محمود أنه في وصفها لنفسها تقول: "انا فتحاوية قبل تأسيس حركة فتح. مضيفة أن والدها كان من طليعة الثوار الذين قاتلوا ضد الانتداب البريطاني ومن بعده العصابات الصهيونية."
وتشير كما يذكر الكاتب نفسه قولها أنه: "لأبي الفضل في كوني مناضلة حيث أن والدتها سورية الأصل من عائلة عريقة هي عائلة المالكي، وفي الحوار معها تقول: انضم والدي الى ثورة سلطان باشا الأطرش حين كان في الشام. وفي يافا بدأ نضاله، ..." ويضيف الكاتب: "غادرت سلوى أبو خضرا يافا وهي تذرف الدموع السخية. كيف لا وهي التي فتحت عينيها عليها. كيف تغادر بساتين يافا واريجها وبيارات البرتقال وشاطئ يافا الوضّاء." فأصبحت مقاتلة ومناضلة متطوعة ثم قيادية في الإطار الوطني من الشام الى الكويت الى تونس الى فلسطين.
من مجمل معرفتنا القريبة بها، والمتواصلة، ومن أقوالها (أنظر اللقاء في برنامج مهجرون لفضائية فلسطين أيضًا) استشفينا 3 عوامل هامة أثرت في شخصيتها
1-تأثرها العميق بحجم وهول المشاهد القاسية فترة النكبة عام 1947-1948م وما تبعها،
2-تأثرها من شكل التعامل السيء مع أبناء النكبة خاصة من بعض أنظمة الدول العربية
3-حرية التواصل الفكري والاجتماعي في إطار الأسرة الذي رسم شحصيتها الحرة
4-الجو الثوري النضالي المرتبط بوالدها، ثم بالمحيط لاحقًا، والمرتبط بجمال عبدالناصر، والأقران أمثال ياسر عرفات وصلاح خلف، وجورج حبش
5-دراستها وتجوالها بين الدول العربية وحقائق التاريخ المُعاش، وعقلية مفكرة تفهم ضرورة النهوض
لقد كان لسلوى أبوخضرة أن استدلت في هذا الجو على مفهوم العمل الوطني الفلسطيني ولكنه المرتبط حتمًا بالإطار العروبي ما عنى أن بُعدها العروبي لم يغادرها منذ صِباها حتى كل مراحل حياتها، وهي التي جعلت من فكرة الفجيعة بالنكبة بابًا لرفض اليأس كنتيجة فاتجهت-كما الفلسطينيين بالمخيمات خاصة-للتعليم بكل عزة وقوة، ثم العمل.
كانت مدرسة في التربية والاحتضان للطلاب، كما كانت سيدة بيت من الطراز الأول، وكانت قائدة في المجال السياسي. وقلما تجد من تستطيع (أو يستطيع) أن يوفق بين هذه المهام، والتي استطاعت أن تنسجها في ثوب فلسطيني عربي زاهٍ.
الطفلُ أي طفل كان بالنسبة لها "كائن مقدس" كما أسمته، ورعته في نموذج مدرسة الحنان بالكويت أكان فلسطينيًا أم من أقطار أمة العرب لم تفرق بينهم، وسواء كان غنيًا أو فقيرًا ورغم أن المدرسة كانت خاصة -أي أن على منتسبيها أقساطًا مالية يدفعونها- فإنها لم تتوانى في دعم غير القادرين ماليًا، كما روى لي الأخ أبوالأمين (باتصال خاص معي بعد وفاتها، لتأكيد ذلك وضرورة كتابته اعترافًا بالفضل لصاحبة الفضل) فيما حصل مع أبنائه بالكويت شاكرًا حامدًا مقدرًا ما فعلت له وأبنائه (ومثله الكثير) من 40 عام تقريبًا.
ذكرت أم محمود أنها كانت تقصد أن تحوّل المدرسة الى ما أسمته "روح فلسطين"، فكل طفل أوطالب يكتب اسم بلدته أو مدينته في فلسطين، ويتم وضع أسماء كل القرى والمدن ومواقعها على لوحة داخل الفصل وعلى خريطة كبيرة ليراها الجميع ولا ينسون. وينشدون في ساحة المدرسة تحيا الكويت، تحيا فلسطين، تحيا الأمة العربية.
سلوى أبوخضرة وياسر عرفات
كانت (الست سلوى كما تناديها طالباتها وطلابها) جريئة في الدفاع عن دور المرأة وموقعها ومكانتها في إطار الثورة الفلسطينية وكل محافلها، وأطلقت بدعوة منها معسكرات تدريب خاصة للأخوات في سورية كي لا تظل الثورة حكرًا على الرجال، ما أيده الأخ أبوعمار وتم.
عندما سُئلت عن أبوعمار وهو من أجيالها (بالعمر) قالت أن ياسر عرفات: "هو القائد الفذّ الذي له حسناته وله سيئاته أمثالنا جميعا"، فلم تتجه نحو التقديس وإنما نحو التقديروالاحترام والصدق ما هو سِمة الحركيين والثوار المناضلين وأضافت أنه الراعي والقائد والأب كما قالت (وبالنسبة لها الاخ) ولنا أن نرى إشارات من أقوالها حول أبوعمار كالتالي:
• أتاح ياسر عرفات للمرأة النقاش بحرية كاملة في مختلف المحافل
• ألهم الرجال والنساء بشعاراته التي لم يملّ تكرارها
• كان يعاملنا (المرأة) بندّية كالرجال، وليس بدونية
• كان لا يقبل الضعف منا أو غيرنا فيكرر من تعِب فليعطينا أولاده
• كنّا نطلب منه الأشياء الصعبة كقرار أو ماليًا فلا يتواني عن تلبيتها
• اللُحمة بين القيادة كانت الهاجس الأول لياسر عرفات، حيث يقبل أن نختلف ونتفق لكن ضمن الإطار الواحد
• في الاجتماع معه يخالطك الجو العاطفي والفكري النضالي
• لطالما خالطنا بحضرة أبوعمار الشعور الاخوي، والشعور الأبوي ورداء المحبة.
لم تنسى سلوى أبوخضرة موقف الوحدوية واللُحمة الذي لم يغادرعينيها حينما تم إعلان الاستقلال عام 1988 بالجزائر وذلك استثمارًا لانتفاضة الحجارة المجيدة في فلسطين لتقول في مقابلتها مع فضائية فلسطين: " كان يومًا بهيجًا، رغم أن الدولة هي بأذهاننا، ونحن بعيدون عن فلسطين. وحينها وقف القائد جورج حبش وأمسك بيد القائد ياسر عرفات ورفعها مع يده قائلًا وهو المعارض: أرجو يا أخ أبوعمار أن تكون على حق، وأنا على باطل وأن نكمل المشوار. ما شكل حقيقة الاختلاف والمحبة والوحدة الوطنية".
الصوت الثوري الفلسطيني-العروبي
كانت الأخت سلوى أبوخضرة (هكذا كنا نخاطبها ونخاطب كل القياديين وكل الحركيين بالصفة الوحيدة أخ أو أخت، ومازلنا على ذات المسار) من المقربين من الخالد ياسر عرفات كما الحال من كل قادة الثورة خاصة أبوإياد-صلاح خلف الذي كان مشهورًا بمعارضته "الأخوية" لكثير من مواقف أبوعمار السياسية، وإن كنا نراها أكثر ميلًا لأبي إياد منه الى أبي عمار، فهي لم تكن الا حمامة سلام بينهما، كما تبين لنا لاحقًا وبين كل المختلفين في إطار الثورة حتى من الفصائل الأخرى. لقد لعبت الدور الصعب في الزمن الصعب واستطاعت بذلك أن تحظى بمحبة وتقدير الجميع.
كانت أم محمود صوتًا ثوريًا مقاومًا ووطنيًا عروبيًا معًا فهي من أكدت دومًا على "ضرورة تضافر الجهود، وتحقيق اللحمة العربية الفلسطينية" كمدخل للنصر، كما أكدت على أهمية احترام وتتابع الأجيال ما "يشكل جذوة الحرية والعودة المشتعلة"،" و"أنا متفائلة دومًا". ولم يفتها أبدًا التاكيد على أهمية "إبراز النقاط المضيئة بمسيرتنا وتاريخنا رغم قساوة الزمن علينا".
رحلت المرأة الجريئة الانيقة، والمعلمة الصلبة واللطيفة، المرأة الندّ، المرأة المشرقة، والقائد بالإطار الوطني لتخلّف إرثًا يُحسب لكل المناضلين والمناضلات، والاجيال في فلسطين، فرحمها الله، وإنها لثورة حتى النصر.
هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر شبكة راية الإعلامية.