مشروع تأسيس الدولة الفلسطينية مخاض مستمر منذ نحو قرن!
الكاتب: د. محمد جبريني
في الذكرى ال36 لإعلان الاستقلال،،،
مشروع تأسيس الدولة الفلسطينية مخاض مستمر منذ نحو قرن!
طالبت منظمة التحرير الفلسطينية بتأسيس الدولة الفلسطينية، ككيان سياسي قانوني، على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، تعيش بأمن وسلام إلى جانب إسرائيل، وهو ما تضمنته مقررات الدورة (19) للمجلس الوطني الفلسطيني، ووثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني في الجزائر في 15 تشرين الثاني 1988 . وقد بدأت منظمة التحرير الفلسطينية بالتفاوض مع إسرائيل رسمياً منذ عام 1993، لتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث تم توقيع اتفاقية "إعلان المبادئ" في واشنطن بتاريخ 13/09/1993، التي تضمنت إقامة سلطة فلسطينية انتقالية مدتها خمس سنوات، يتم خلالها التفاوض بين إسرائيل ومنظمة التحرير للاتفاق على قضايا الحل النهائي وهي: الحدود، القدس، اللاجئين، المستوطنات، الأمن، والمياه . وقد تلا هذه الاتفاقية، اتفاقيات أخرى تناولت الترتيبات الانتقالية، وتضمنت نقل المزيد من الأراضي والصلاحيات للفلسطينيين. وتم تجاوز الفترة الزمنية المحددة للمرحلة الانتقالية دون التوصل لاتفاقية نهائية بين الطرفين، مما أدى إلى اندلاع الانتفاضة الثانية (انتفاضة شهداء الأقصى عام 2000).
واستمرت المفاوضات بشكل متقطع ومتعثر بين الجانبين أعقبها عملية انقطاع شبه تام منذ تولي "بنيامين نتنياهو" رئاسة الحكومة الإسرائيلية عام 2009، بسبب رفضه الاعتراف بالمرجعيات الدولية لعملية السلام، ووقف الاستيطان في الضفة الغربية، وإطلاق سراح قدامى الأسرى الفلسطينيين. ذلك إلى جانب اشتراطه أن تعترف منظمة التحرير الفلسطينية بــ "يهودية دولة إسرائيل".
تم منح فلسطين في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، مركز دولة غير عضو لها صفة المراقب في الأمم المتحدة . وتتيح الصفة الجديدة لفلسطين، التي تساوي صفة الفاتيكان، إمكانية الانضمام للمنظمات والمعاهدات الدولية. وتم قبول عضوية دولة فلسطين في محكمة الجنايات الدولية في الأول من نيسان 2015، والكثير من المنظمات والمعاهدات الدولية .
المخاض التأسيسي لفكرة الدولة الفلسطينية:
لعل من الأهمية بمكان، الإشارة إلى أن فكرة تأسيس الدولة الفلسطينية لم تكن فكرة حديثة أو طارئة، وإنما طُرحت في سياق معطيات تاريخية وسياسية محددة قبل نحو مائة عام. وعليه، تبرز أهمية تناول أبرز المراحل التاريخية التي مرت بها القضية الفلسطينية لتشكل مدخلاً هاماً لفهم الموضوع.
سنتناول في هذه المقالة، فكرة تأسيس الدولة الفلسطينية، والالتزام الدولي تجاهها ظاهراً، والتنصل من تجسيدها واقعاً، لصالح دعم المشروع الصهيوني(1).
وسنتطرق إلى ملابسات وقوع النكبة، وقدرة الفلسطينيون على استعادة زمام المبادرة(2). وسنختم بتركيز فكرة الدولة الفلسطينية مع اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987، وبدايات تَغّيُر السياسة الإسرائيلية تجاه تأسيس الدولة الفلسطينية(3).
1. نشأة فكرة تأسيس الدولة الفلسطينية:
نَشَأت فكرة تأسيس دولة فلسطينية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، كاستحقاق للتفاهمات العربية–البريطانية، التي جرت بين المعتمد البريطاني في مصر السيد "آرثر مكماهون" وشريف مكة الحسين بن علي، والقاضية بحصول الولايات العربية على الاستقلال، بمجرد انتزاعها من يد الدولة العثمانية، نظير مساندة العرب لبريطانيا في تلك الحرب .
لم توفِ بريطانيا بوعودها للعرب، بل سارعت إلى عقد اتفاقية "سايكس–بيكو" مع فرنسا عام 1916، لتتقاسم أملاك الدولة العثمانية فيما بينها. وفي عام 1917، أعطت بريطانيا وعداً لليهود بإقامة وطناً قومياً لهم في فلسطين وهو ما عرف باسم "وعد بلفور"، بما يتساوق مع المشروع الصهيوني الذي كان قد تبلور فكرياً وسياسياً باتجاه فلسطين (المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897)، وأخذ يدفع بعناصر قوته لتأسيس قواعده الارتكازية فيها من خلال الهجرة والاستيطان وبناء المؤسسات اليهودية.
وما أن استكملت بريطانيا احتلال فلسطين عام 1918، حتى سارعت إلى اجتزائها من الجسم السوري الذي تقاسمته مع فرنسا، وفتحت أبواب الهجرة أمام اليهود، وسخرت لهم إمكانيات أكبر للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وإقامة المستعمرات عليها مما أخل بالواقع السكاني والسياسي الفلسطيني .
وفي حزيران 1922، قررت عصبة الأمم المتحدة انتداب بريطانيا على فلسطين بعد أن أدخلت "وعد بلفور" ضمن صك الانتداب ، مما شرَّع دولياً لإقامة وطناً قومياً لليهود في فلسطين، وكان ذلك على حساب حقوق الشعب الفلسطيني ومصالحه، وبدعم مباشر من القوى الكبرى، متجاهلة بذلك ميثاق عصبة الأمم الصادر بعد مؤتمر الصلح في "فرساي" عام 1919، والذي أقر بشكل مباشر بالوجود الشرعي المستقل لفلسطين ضمن حدود دولية محددة، وخارطة إقليمية واضحة، مرسياً بذلك الحدود الكيانية الفلسطينية الوليدة، كما حدود الكيانات العربية المجاورة، حيث اعتُبِرَ في حينه أول أساس قانوني دولي للدولة الفلسطينية. وبذلك، أصبحت فلسطين -نتاج هذا التجاهل- حالة خاصة، وفُرض على شعبها وضعاً مختلفاً عن أوضاع الأقطار العربية التي خضعت للانتدابات الغربية الهادفة إلى تهيئة شعوبها نحو الحكم الذاتي والاستقلال، وأدى بالتالي إلى كسر المسار السياسي الطبيعي للشعب الفلسطيني، الأمر الذي فتح باباً للصراع بين العرب واليهود لم ينتهِ حتى الآن، حيث لم يكن هذا الصراع منذ بدايته صراعاً محلياً بقدر ما هو صراعاً ناتجاً عن التوازنات والمصالح الدولية .
لم يُسلّم الشعب الفلسطيني بالأمر الواقع، وثار ضد السياسة الانتدابية المجحفة التي كان من أبرز نتائجها السماح بقيام مؤسسات سياسية خاصة بالأقلية اليهودية، كالمؤتمرات العامة والأحزاب السياسية والمجالس المنتخبة، التي جعلت من الوكالة اليهودية حكومة خاصة داخل حكومة فلسطين الانتدابية. بينما لم يعترف البريطانيون بحق الأغلبية العربية الفلسطينية في إقامة المؤسسات السياسية والتشريعية الخاصة بها، ولم يتعاملوا بجدية مع مسألة تطوير أنظمة الحكم الذاتي في فلسطين، إلا بالقدر الذي يُشرع للحقوق والامتيازات اليهودية. الأمر الذي جعل التيارات الفلسطينية المختلفة تتوحد على أهداف مشتركة، تمثلت بوقف الهجرة اليهودية، ومقاومة بيع الأراضي لليهود، ومقاومة حركة الاستيطان المتزايدة، الأمر الذي أسس لاحقاً لأول انتفاضة فلسطينية في آب 1929، معلنة البدء بمسيرة المواجهة المسلحة مع المشروع الصهيوني. واتسعت دائرة المواجهات الفلسطينية-الصهيونية في النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي وصولاً إلى تشكيل اللجنة العربية العليا التي قادت ثورة عام 1936، وأجبرت البريطانيين على إرسال اللجنة الملكية "بيل" التي أصدرت فتواها عام 1937، بإنهاء الانتداب البريطاني وإقامة دولتين مستقلتين في فلسطين، دولة عربية وأخرى يهودية تخضع لمعاهدات مع لندن، وإبقاء الأماكن المقدسة خاضعة للإشراف البريطاني، الأمر الذي رفضته الحركة الوطنية الفلسطينية واستأنفت الثورة من جديد لتُسقط مشروع التقسيم البريطاني .
وقد شكلت الحرب العالمية الثانية نقطة تحول كارثية أخرى في التاريخ الفلسطيني، لأنها حملت معها تحولات وتغييرات دراماتيكية عكست نفسها على الصراع العربي-الصهيوني وعلى ميزان القوى المباشر على الساحة الفلسطينية.
فعلى الصعيد الفلسطيني، كانت الحركة الوطنية قد تلقت ضربات متلاحقة، وأصبحت منهكة ومشتتة، وزعامتها منفية ومطاردة، وقيادات الأحزاب متناحرة ومتصارعة .
وعلى الصعيد الصهيوني، كرست الحركة الصهيونية مواقعها في التحالف الاستعماري، وقوّت علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، واستقطبت موجات جديدة كبيرة من المهاجرين، وعززت قواها العسكرية والحزبية والإدارية، وحصنت مستوطناتها ومواقعها الدفاعية، وأصبحت جاهزة للمعركة الفاصلة .
أما على الصعيد العربي، كانت الأقطار العربية تتجه نحو تعزيز كياناتها القطرية بالاتفاقات والمعاهدات السياسية والعسكرية مع القوى الاستعمارية والأوروبية، وتراجعت القوى السياسية الشعبية الوحدوية أمام هيمنة القوى الإقطاعية والتقليدية المحافظة .
وعلى المستوى الدولي، فقد كانت بريطانيا قد خرجت من الحرب العالمية الثانية "منتصرة"، لكنها محطمة مدمرة، فاقدة السيطرة على إمبراطوريتها مترامية الأطراف. وكانت تستعد مع فرنسا لدفع ضريبة الهزيمة الفعلية أمام القوى الجديدة الخارجة من الحرب -الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة- وبالتالي التراجع عن مناطق نفوذها لصالح الحليف الأكبر في واشنطن .
ناهيك عن هزيمة ألمانيا التي عولت عليها القيادة الفلسطينية، وإشهار أمريكا -التي راهنت القيادات العربية على صداقتها- عن دعمها للحركة الصهيونية، وتراجع الاتحاد السوفييتي -الذي استند إليه الشيوعيون الفلسطينيون- عن دعم مشروع الدولة الفلسطينية الديمقراطية إلى مشروع التقسيم .
وبعد الحرب العالمية الثانية، شهد المسرح السياسي ثلاثة مشاريع تتعلق بمستقبل فلسطين، على أثر تقديم اللجنة الأمريكية-البريطانية تقريرها الذي لا ينصح بإقامة دولة مستقلة في فلسطين، بل بإبقائها تحت الانتداب البريطاني : المشروع العربي الذي قُدِّمَ إلى مؤتمر لندن الثاني، ويقضي بتشكيل حكومة مؤقتة (سبعة عرب، ثلاثة يهود) تُنقل إليها السلطات التشريعية والتنفيذية، ثم يُنتخب مجلس تأسيسي يضع دستوراً يُنهي الانتداب وينص على أن فلسطين دولة موحدة ذات دستور ديمقراطي ومجلس نيابي منتخب، وقد رفضه البريطانيون واليهود .
والمشروع البريطاني الذي قُدم في المؤتمر ذاته ويقترح اتفاق وصاية تخضع فلسطين بموجبه إلى وصاية بريطانية بإشراف الأمم المتحدة لفترة انتقالية مدتها خمس سنوات، تُعْلن في نهايتها دولة فلسطينية، إذا سارت الترتيبات على ما يرام، وقد رفضه العرب واليهود . وأخيراً، المشروع الصهيوني الذي أعلنته الوكالة اليهودية بعد رفضها المشروعين العربي والبريطاني، ويقضي بالتعجيل في إقامة الدولة اليهودية على 65 % من أرض فلسطين التاريخية، تشمل الجليل والسهول الساحلية والمناطق الغربية وصحراء النقب. وقد أيد الأمريكيون المشروع الصهيوني في حين رفضه البريطانيون والعرب.
وانتهى الأمر إلى فشل مؤتمر لندن عام 1946، وأخذت الحكومة البريطانية من ذلك ذريعة للتحلل من مسؤولياتها، وقررت نقل القضية إلى الأمم المتحدة اعتباراً من تاريخ 02/04/1947، التي قررت تشكيل لجنة لتقصي الحقائق حول فلسطين . وبتاريخ 29/11/1947، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار التقسيم، الذي ترتب عليه حدوث صدامات بين الكيان اليهودي المنظم والمتمكن، والذي يملك منظمات عسكرية مدربة ومسلحة بشكل جيد، والشعب الفلسطيني المستضعف الذي وصفه الباحث "رشيد الخالدي" في تلك الحقبة بأنه كان "هش البنية الداخلية، وتسوده خلافات طاحنة سواء بين الأحزاب أو العوائل الفلسطينية المسيطرة على قيادة الحركة الوطنية آنذاك".
2. النكبة وقدرة الفلسطينيون على استعادة زمام المبادرة:
بعد وقوع النكبة عام 1948، واحتلال إسرائيل لنحو 78% من الأراضي الفلسطينية، وضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهاشمية عام 1950، فيما تولت مصر مؤقتاً إدارة قطاع غزة . فقد تم تفويت فرصة واقعية لإقامة دولة فلسطينية على ما تبقى من الأرض الفلسطينية، بل وأكثر من ذلك، لم يعد لفلسطين أي وجود على الخارطة السياسية، وأصبح شعبها ضحية للتشرد والشتات.
ورغم شدة وطأة النكبة والضربة القاسية التي وُجِّهت للحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك، فقد أعلن المجلس الوطني الفلسطيني الذي عُقد في غزة بتاريخ 01/10/1948، عن استقلال فلسطين كلها (بحدودها الطبيعية)، وإقامة دولة حرة ديمقراطية ذات سيادة، وأقر نظام مؤقت لحكومة عموم فلسطين التي واجهت منذ اللحظة الأولى مشكلات افتقارها إلى السيادة، والاعتراف العربي والموارد المالية والقدرات العسكرية، وغرقت في تفاصيل إجرائية لمعالجة مشكلات اللاجئين.
وهكذا، ورغم طموح تلك الحكومة ببلورة الكيان الفلسطيني في إطار هيكل دستوري يتخذ له شكل الدولة بمؤسساتها السياسية والإدارية، فإن وضعه الفعلي لم يزد عن كونه مشروع كيان لم تتوافر له الشروط الضرورية التي تجعل منه واقعاً ملموساً، مما أدى إلى وفاته سريرياً منذ ولادته.
ومنذ ذلك الحين، تحولت القضية الفلسطينية من قضية سياسية إلى مشكلة إنسانية خاصة بإيواء اللاجئين الفلسطينيين وإغاثتهم وتشغيلهم. وقد بقي الحال على هذا النحو إلى أن تأسست منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، ككيان معنوي للشعب الفلسطيني، هدفها إرساء بنية هيكلية شبيهه ببنية الدول. فأقامت جهازاً تشريعياً (المجلس الوطني) وجهازاً تنفيذياً (اللجنة التنفيذية)، وقوة مسلحة (جيش التحرير الفلسطيني). كما حدث تحول في موقف المجتمع الدولي، حين صدر في العاشر من كانون أول عام 1969، القرار رقم (2535) عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي اعترف بالهوية القومية للشعب العربي الفلسطيني.
وقد سعت منظمة التحرير الفلسطينية لأن تكون الإطار الجامع والمعبر عن الكيانية الوطنية الفلسطينية، ولكنها لم تتحول إلى ذلك فعلياً إلَّا عندما أصبحت الفصائل الفدائية هي المكون الأساسي لها. وقد بدأت الحديث عن الدولة بعد أن نجحت في إعادة بناء قوتها العسكرية والسياسية، والحصول على الاعتراف العربي بها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، وتكريسها كياناً سياسياً معنوياً للشعب الفلسطيني، عبر سلسلة الاعترافات العربية والإسلامية والإفريقية وغير المنحازة والاشتراكية، إضافة إلى بعض الدول الغربية. وبعد أن توالت المشاريع الدولية والعربية والفلسطينية والإسرائيلية لحل الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي وتحقيق تسوية سياسية للقضية الفلسطينية على أساس قراري مجلس الأمن الدولي (242) الصادر بعد حرب حزيران عام 1967، وقرار (338) الصادر بعد حرب تشرين أول عام 1973.
3. تركيز فكرة الدولة مع اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987:
تمكنت الانتفاضة الفلسطينية (انتفاضة الحجارة) عام 1987، التي انطلقت من الأراضي الفلسطينية المحتلة ورفعت شعار إنهاء الاحتلال وإقامة "الدولة المستقلة"، من فرض بحث موضوع الدولة في مختلف الدوائر الإسرائيلية والإقليمية والدولية. وقبل ذلك اعتقد كثير من الإسرائيليين أن الفلسطينيين لا يُشكلون أية مشكلة سياسية، وليست لديهم أية طموحات أو رغبات سياسية، وهمهم الوحيد تدمير إسرائيل. ومن هنا يجب عدم اعتبارهم شريكاً في المفاوضات لأنه يمكن بحث مشكلتهم مع طرف آخر مثل الأردن أو مصر أو حتى الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، خُلق في إسرائيل حاجزاً فكرياً منع أي بحث في موضوع الأراضي الفلسطينية المحتلة وسكانها، ومسح الموضوع الفلسطيني من الوعي الإسرائيلي العام لمدة عشرين عاماً، إلى أن اندلعت الانتفاضة الأولى وقلبت الأمور رأساً على عقب. وفي عام 1988، وفي ذروة الانتفاضة، بدا بأن صيرورة هذا الفعل الشعبي الكفاحي تتجه مباشرة نحو دولة مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهذا بالضبط فحوى ما خلص إليه تقرير أمريكي وضعه الباحث "غراهام فولر"، حيث لاحظ أن ردات الفعل على الانتفاضة الفلسطينية في إسرائيل والولايات المتحدة وغيرهما من الدول، قد حتمت قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبأن هذه العملية قد تكون طويلة ومؤلمة ومعقدة، لكن لم يعد ثمة حل آخر قابل للتطبيق. وقد دفع الشعور بــــِـ "حتمية الدولة الفلسطينية" مخططي السياسة الأمريكية إلى افتراض المخارج للوصول إلى تحقيق ذلك بأقل الخسائر الممكنة، فطرح خيار اللجوء إلى التسوية لتحقيق الدولة، بدل أن تقوم تحت وطأة الضغط والقوة، بما يفتح شهية العرب والفلسطينيين من أجل المطالبة بالأرض التي تقوم عليها إسرائيل .
ولاحظ "فولر" أيضاً أن الانتفاضة هي السبب المباشر للتحركات السياسية الجديدة والمهمة التي قامت بها منظمة التحرير الفلسطينية، بما في ذلك إعلان دولة فلسطين من الجزائر عام 1988، والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود من خلال القبول بقراري مجلس الأمن الدولي (242) و(338) كمقدمة لتغطية متطلبات الحوار مع الولايات المتحدة، وفتح قنوات الحوار مع إسرائيل.
لقد خلقت الانتفاضة وقائع جديدة بالنسبة لإسرائيل، المنقسمة أصلاً في موقفها بشأن تحديد مصير الضفة الغربية وقطاع غزة، ففي حين يصر معسكر الصهيونية الإصلاحية (اليمين) على التمسك أساساً بأرض الآباء التاريخية على أُسس أيديولوجية ودينية ووطنية، فإن معسكر الوسط واليسار الصهيوني يُعارضان استمرار السيطرة على أكثر من أربعة ملايين فلسطيني بما تعكسه تلك السيطرة من آثار مدمرة على المجتمع الإسرائيلي. ومن الجدير بالذكر أن كل معسكر من المعسكرين يشعر بأن المعسكر الآخر يُعرِّض وجود إسرائيل وحياة سكانها للخطر .
وأثارت الانتفاضة أسئلة أساسية تتعلق بنظرة إسرائيل إلى نفسها، وما هي حدودها الحقيقية ككيان على الأرض؟ ما هي الطبيعة الأثنية والدينية الملائمة للدولة الإسرائيلية؟ وما هي متطلبات الحدود الآمنة عسكرياً وسياسياً؟ واستخلص الباحث الأمريكي "فولر" أن الانتفاضة وضعت حداً يكاد يكون نهائياً للآمال الأمريكية والإسرائيلية بتطوير وسائل بديلة تهدف إلى منع الاستقلال الفلسطيني .
لقد تجدد الاستقطاب حول فكرة الدولة الفلسطينية بالارتكاز إلى ما أحدثته الانتفاضة من تأثيرات في الوعي الإسرائيلي تجاه مفهوم الدولة الفلسطينية، وخصوصاً بعد قيام الأردن بفك الارتباط مع الضفة الغربية في شهر آب عام 1988، مما أسقط عملياً ما كان يُعرف بــــ "الخيار الأردني"، بمعنى؛ إلحاق ما يمكن أن تنسحب منه إسرائيل ضمن عملية تسوية بالأردن.
وأثناء الانتفاضة ظهرت في البداية فئة إسرائيلية صغيرة تعتقد أنه لا مناص من قيام دولة فلسطينية في نهاية المطاف، أما الاتجاه الإسرائيلي العام، فبقي مع الحكم الذاتي أو محاولة إعادة إنتاج الخيار الأردني بأشكال أخرى. وهذا ما أكدته الدراسة الأكاديمية التي قام بها معهد يافا التابع لجامعة "تل أبيب"، واشترك بها نحو 20 باحثاً استراتيجياً إسرائيلياً بالتعاون مع باحثين من معهد واشنطن للسياسة الشرق أوسطية، حيث فحصت الدراسة البدائل المختلفة لمعالجة قضية المناطق المحتلة وقضية الشعب الفلسطيني، وكان من أبرز تلك البدائل: استمرار الوضع الراهن، الحكم الذاتي، الضم، دولة فلسطينية، انسحاب من قطاع غزة، اتحاد فيدرالي أردني-فلسطيني .
وقد خلصت الدراسة إلى أن الوضع القائم يحتم التقدم نحو حل محتمل يتم التوصل إليه نتيجة اتفاق إسرائيلي–فلسطيني، عبر مفاوضات مباشرة بين ممثلي الطرفين، حيث يصبح مطلوباً من إسرائيل والفلسطينيين البدء في تغيير المفاهيم الأساسية بغية خلق الثقة المتبادلة بينهما، وليس من أجل حلاً فورياً للنزاع. والاتفاق مسبقاً على مبادئ أساسية من قبيل: عدم العودة لحدود عام 1967، منح سكان الضفة الغربية وقطاع غزة حكماً ذاتياً حقيقياً والتخلي عن معظم أراضي الدولة بما يفصل السكان اليهود عن الفلسطينيين، والتوقف عن إقامة مستوطنات يهودية، وجود فترة انتقالية طويلة (10-15) عاماً لن تتم خلالها إقامة دولة فلسطينية، والحفاظ خلالها على الترتيبات الأمنية اللازمة لضمان أمن ووجود إسرائيل، بالإضافة إلى وقف الانتفاضة، وتوطين اللاجئين خارج نطاق فلسطين، والاعتراف بحق إسرائيل بالوجود كدولة يهودية .
غير أن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي أعلنت الدولة فيما أسمته هجوم السلام الفلسطيني عام 1988، كانت بصدد استثمار أي تحول بالنظرة الإسرائيلية لموضوع الدولة. وفي ظل هذا الوضع، جرى الدخول إلى مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، حيث حمل الإسرائيليون معهم تصوراً لا يعدو عن كونه حكماً ذاتياً وفق صيغة "كامب ديفيد" أو أقل بقليل. ورأت المنظمة في حضور المؤتمر- وإن كان تحت المظلة الأردنية- خروجاً من العزلة الخانقة وحالة انعدام التأثير بعد حرب الخليج الأولى، إضافة إلى الخوف من فقدان التمثيل ومصادرة الدور .
وكمحصلة لما أحدثته الانتفاضة الأولى من أثر وتطور في مواقف مختلف الأطراف، فقد تحدث "هنري كيسنجر" عن "دولة فلسطينية محتومة". ولم يعد الأمريكيون والإسرائيليون يبدون ذلك القدر المعتاد من التخوفات كلَّما دار الحديث عن دولة فلسطينية. ورأى محللون إسرائيليون، أن هذه "الدولة" قد تكون الحل والمخرج من الوضع القائم، سواء فيما يخص الخيار الأخلاقي بالتخلص من الاحتلال المضجر، أو مواجهة الخطر الديمغرافي الذي يُهدد أساسات الدولة "اليهودية"، أو إبطال التهديد الأمني، أو اعتقاداً بأنه قد تتطور داخل الدولة الجديدة مصالح توجه معظم طاقاتها للتطوير الداخلي، وأن ينشأ حزام تعاطف دولي حول "دولة إسرائيل" يُحبط كل تهديد لسلامتها، كما وأن التخلي عن مناطق فلسطينية سيترك أثره في نسيج الحياة الإسرائيلية كمضاد حيوي في جسد أُصيب بتلوث شديد .
وبالتالي فإن تعبير "الدولة الفلسطينية" لم يعد يثير الحساسية السابقة لدى الإسرائيليين، لأنهم يتعاطون بوعي مع الشكل المقلص منها، والذي يخدم المصالح الإسرائيلية، ويوهم بتحقيق التطلعات الفلسطينية دون الاضطرار لتقديم تنازلات جوهرية.
إذ ينطلق قادة "دولة إسرائيل" في قبولهم المشروط بوجود تلك الدولة من متغيرات أمنية وديمغرافية وسياسية دافعة لتسوية الصراع مع الشعب الفلسطيني. وتتجلى المعايير العامة للرؤية الإسرائيلية لحل الصراع بما قد يفضي إلى تأسيس دولة؛ بأن تتجاوز هذه الدولة الحقوق الفلسطينية المقررة في القانون الدولي، بما في ذلك الافتقار إلى السيادة وإسقاط حق العودة، هذا إلى جانب الاعتراف بـ "يهودية دولة إسرائيل".
ومن أجل تحقيق ذلك، تُصر إسرائيل على تجاوز المرجعيات الدولية في قضايا الحل النهائي والاستعاضة عنها بشرعية المفاوضات ذات المرجعية الذاتية.
وبما أن المطروح إسرائيلياً لا يستجيب إلى الحد الأدنى من التطلعات الفلسطينية، بعد التنازلات الكبيرة التي قدمتها القيادة الفلسطينية بالتحول من المطالبة بتحقيق العدل المطلق (تحرير فلسطين من النهر إلى البحر)، إلى العدل الممكن (دولة فلسطينية على حدود عام 1967).
فإن حالة إدارة الصراع بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وربما تحويله باتجاهات أخرى، ستستمر إلى حين توفر شروطاً مواتية لحله أو إنهائه، وذلك، كنتاج للتغير في بيئة الصراع المحلية والإقليمية والدولية تؤدي إلى تغيير مواقف أحد أو كلا طرفيه. مما يعني استمرار حالة المخاض الممتدة منذ نحو قرن من الزمن!
المصادر محفوظة.