واقعة امستردام في قاموس الاعلام الغربي
الكاتب: اسيا العتروس
لا قيمة لحياة الفلسطيني هي الخلاصة الاولى لواقعة امستردام التي تفضح مجددا الانحياز البغيض للاعلام في الغرب مع بعض الاستثناءات التي لا يمكن اسقاطها من الحرب الاعلامية المستمرة بالتوازي مع جريمة الابادة في غزة , أما الخلاصة الثانية التي يجدر الانتباه لها أكثر وهي تتعلق بالاعلام العربي الذي لم يكن في الموعد في هذه المحطة التاريخية المصيرية من مسار القضية الفلسطينية و محاولات طمس الحقائق و الغائها و التعتيم عليها ,وهي مسألة حساسة ويفترض أن تكون محور نقاش وحوار عميق بشأن التقصير الحاصل الذي يمكن وصفه بالخذلان ازاء ما يجري في غزة منذ أكثر من عام من تصفية عرقية يتعرض لها القطاع بكل اجياله و ما يمكن تأكيده أنه ازاء الدعاية الاعلامية لكيان الاحتلال و للمؤسسات الاعلامية الداعمة و الحليفة له في الغرب بقي الاعلام العربي عموما على هامش المعركة الاعلامية مع بعض الاستثناءات طبعا لبعض القنوات العربية التي جعلت من جريمة الابادة في غزة أولويتها المطلقة ..
لم تحتفظ أغلب المؤسسات السياسية و مؤسسات الاعلام الغربي بعد واقعة امستردام بشيء سوى أن معاداة السامية أصبحت خطرا قائما يلاحق اليهود حيثما يتواجدون في أوروبا ..الغريب ان الاعلام الفرنسي تجاهل كليا الاعتداء الذي تعرض له عنصران امنيان فرنسيان على يد الامن الاسرائيلي في موقع بالقدس المحتلة يفترض أنه تحت سيادة فرنسا و تجنب الاعلام الفرنسي التعرض من قريب او بعيد للحادثة المهينة للدولة الفرنسية ولكنها في المقابل سلطت الاضواء على واقعة امستردام و لكن من زاوية نظر واحدة حيث جعلت من المعتدي ضحية وقدمته في صورة الحمل الضعيف و المستهدف ,وهنا أيضا تتحول الى الرياضة الى معركة سياسية وكان يفترض على الاقل التعاطي مع الكيان الاسرائيلي المحتل الذي يواصل كل الانتهاكات و جرائم الحرب منذ أكثر من سبعة عقود على الشعب الفلسطيني كان يمكن على الاقل التعاطي معه كما يتم التعاطي مع الفرق الروسية التي تحرم من المشاركة في الالعاب الاولمبية و العالمية بسبب الحرب في اوكرانيا و التي يفرض على رياضييها اذا أرادوا المشاركة عدم رفع راية روسيا ولا نشيدها الرسمي ..نقول هذا الكلام على سبيل الذكر لا الحصر كمقدمة لواقعة امستردام التي تم استغلالها وتحويل وجهتها لتكون جزءا من حملة اعلامية هستيرية لا تخل من الوقاحة و انعدام المهنية و ازدواجية المعايير ..
المثير أن الاعلام الفرنسي الذي يصر على تجاهل الاعتداء على الامنيين الفرنسيين في القدس المحتلة اختار أن يكون أكثر ولاء لكيان الاحتلال من مواقع اسرائيلية في نقلها لاطوار ما حدث و من ذلك ما ذكرت القناة 12 الإسرائيلية من أن مشجعي الفريق الإسرائيلي أقدموا على إنزال العلم الفلسطيني من أحد المباني وتمزيقه.وأن شغب الجماهير الإسرائيلية استفز سائقي سيارات الأجرة الهولنديين من أصل عربي وفق القناة.
كما كان متوقعا تحولت واقعة امستردام الى حملة شرسة تحت شعار معاداة السامية الورقة الجاهزة دوما لتبرير كل ممارسات كيان الاحتلال الاسرائيلي داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة و حتى في الخارج .
و كما كان متوقعا أيضا تحولت واقعة امستردام الى الخبر الحدث الذي أزاح من المشهد كل جرائم الابادة و القتل و التوحش في غزة و في لبنان و و أطلقت حكومة تل ابيب و معها أبواق الدعاية الاسرائيلية صرخة فزع حول ما أسمتها “موجة غير مسبوقة” ضد اليهود والإسرائيليين حول العالم، والتي امتدت إلى أمستردام ونيويورك وشيكاغو، إلى جانب عمليات تشويه للرموز الإسرائيلية في ستوكهولم…
ولعله من المهم الاشارة الى أنه وخلافا للرواية الإسرائيلية، فقد قال قائد شرطة أمستردام في هولندا، بيتر هولا، إن مشجعي فريق مكابي تل أبيب الإسرائيلي، أنزلوا علما فلسطينيا من مبنى، واعتدوا على سيارة أجرة، وأحرقوا علما فلسطينيا في إحدى الساحات، وذلك في تعليقه على أحداث الشغب التي خلفت اشتباكات بين مشجعي الفريق، وعدد من مؤيدي القضية الفلسطينية…
لقد كشفت فيديوهات انتشرت على المواقع الاجتماعية و كذبت محاولات حكومة ناتنياهو تزييف الحقائق والظهور في ثوب الحمل الوديع و الضحية الضعيفة قبل انطلاق المباراة مقاطع تعمد مشجعي الفريق الاسرائيلي انتزاع أعلام فلسطين التي وضعت على بعض الشرفات كما كشفت رفض المشجعين الإسرائيليين الوقوف دقيقة صمت حدادا على ضحايا فيضانات فالنسيا الإسبانية وأشعلوا الألعاب النارية وهو ما اعتبر ردا على موقف إسبانيا لاعترافها بدولة فلسطين ورفضها بيع السلاح لإسرائيل.ما حدث لاحقا أن القادة الاسرائيليين اطلقوا العقيرة للتنديد بمحرقة تستهدف اليهود في امستردام و تدعو للاستنفار و أعلن لاحقا عن اعتقال الشرطة الهولندية عشرات المؤيدين لفلسطين و لم يتم في المقابل الاعلان عن أي ايقافات للاسرائيليين ..
حادثة أمستردام ليست مجرد اشتباك بين مشجعي فريقين رياضيين متنافسين على الميدان بعد أن تجاوزت حدود الميدان لتعكس الابعاد الخطيرة و غير المحسوبة لحرب الابادة المستمرة على غزة منذ اكثر من عام وقناعتنا انها ستستمر وبكل الاشكال طالما استمرت غطرسة ومظالم الاحتلال ..وهي حرب يبدو أنها لن تتوقف في هذه الفترة الانتقالية التي تسبق تولي الرئيس الامريكي العائد الى البيت الابيض دونالد ترامب الى السلطة …والاكيد أن ناتنياهو والعصابة المتطرفة المحيطة به لا تريد أن تمنح امتياز وقف اطلاق النار لادارة بايدن التي تستعد للرحيل وهو الذي يعول على صاحب اتفاقية ابراهام لاطلاق قواته لضم الضفة والسيطرة على غزة …وقد بدأ ترامب يكشف عن فريقه الجديد للسنوات الاربع القادمة بعد السيطرة على الكونغرس بمجلسيه الى جانب السيطرة على المحكمة العليا …
وبالعودة الى تطورات واقعة امستردام فقد اتضح وأنها بدأت بإحراق المشجعين الإسرائيليين العلم الفلسطيني و هتافاتهم الاستفزازية الداعية لقتل العرب و كل اطفال غزة ..ولنا في رسالة نشرتها انيت ديغراف صحفية هولاندية تطالب فيها صحف غربية بينها الغارديان البريطانية ونيويورك تايمز الامريكية و بيلد الالمانية بالاعتذار بعد اقتطاع اجزاء من فيديو نشرته حول واقعة امستردام و نشر تعرض المشجعين الاسرائيلين للاعتداء و شددت الصحفية الهولاندية على ان “الصحافة هي البحث عن الحقيقة و ليست عن تحقيق الارباح من خلال تحريف الوقائع “.و قد تضمن فيديو الصحفية الهولاندية اعتداء انصار الفريق الاسرائيلي على مواطنين هولانديين ..واتضح و أن “مشجعي الفريق الاسرائيلي هم من قام باستفزاز السكان المحليين في أمستردام الهولندية، وتم نشر مقطع فيديو أمس يُظهر مشجعين يُحرقون العلم الفلسطيني، ويردّدون هتافات عنصرية ضد العرب”.و هو ما ذهبت اليه صحيفة الغارديان في تقرير لاحق .وأطلق هؤلاء شعارات عنصرية ، مفادها أن الجيش الإسرائيلي سيفعل فعله بالعرب”، مع الاستهزاء بأطفال قطاع غزة.
وسيكون لمباراة الخميس في العاصمة الفرنسية باريس والتي قرر الرئيس ماكرون أن يحضرها اختبار جديد لسياسة المكيالين للاعلام الغربي عندما يتعلق الامر بكشف عنصرية وعدوانية العقلية الصهيونية ..
المعركة الاعلامية جزء مهم من الحرب المتوحشة المستمرة في غزة وهي بالاضافة الى أنها تدون الاحداث لحظة بلحظة فانها تحفظ الذاكرة و تؤسس ارشيف المعركة التي ستجد طريقها الى المحاكم الدولية عندما تتوقف الحرب التي لا يمكن أن تستمر الى ما لا نهاية …
حتى الان يراهن كيان الاحتلال على طمس و اخفاء كل ما يمكن ان يزعجه او يدينه و من هنا ما يتعرض له المدعي العام للجنائية الدولية كريم خان من ادعاءات بارتكاب اعتداءات و جرائم جنسية…ندرك جيدا أن كريم خان لم يكن في حجم المسؤولية حتى الان و لم يعجل بتنفيذ بطاقات الملاحقة في حق مجرمي الحرب ناتنياهو و غالانت كما حدث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين , و لكن استهدافه في هذه المرحلة يعيد الى الاذهان محاولات ترهيب بعد نافي بيلاي التي اتخذت خطوة تاريخية بالاقرار بان ما يجري على الاراضي الفلسطينية المحتلة يتنزل في صلاحياتها و هو ما فتح عليها ابواب الاتهامات بالفساد المالي ..و الارجح أن اثارة ملفات فساد اخلاقي بحق كريم خان في هذه المرحلة يتنزل في هذا السياق للضغط عليه و على بقية اعضاء المحكمة و دفعهم للتراجع عن ملاحقة مجرمي الحرب في اسرائيل …
كاتبة تونسية