الحرب والمحتجزون والهجرة
د . أحمد رفيق عوض
رئيس مركز الدراسات المستقبلية في جامعة القدس
الاستثمار في الحرب
كما قال نتانياهو ، فهو لن يوقف الحرب في قطاع غزة بحثاً عن تحقيق أهداف مستحيلة، فهو يعرف ذلك حق المعرفة ، ولكنه لن يوقف الحرب حتى يبرر بقاءه السياسي وحتى لا تنهار اسرائيل أمام محور المقاومة، فوقف الحرب معناه الدخول في مفاوضات حقيقية، ونتنياهو لا يريد ذلك ولا يمكنه ذلك أيضاً، فهو يتصرف بمنطق المنتصر لا الباحث عن تسوية، هو يريد الاستمرار في الحرب ليحقق الأهداف الخفية منها، فلا يعنيه الأسرى ولا يعنيه اجتثاث حركة حماس ، ما يعنيه هو محو المكان وضمان الهدوء لعقود وتحويل القطاع إلى مفترق طرق للمواصلات والاتصالات والاستثمارات والاستيطان، ما يعنيه هو تغيير كامل في الديموغرافيا والجغرافيا الفلسطينية بشكل يقطع الطريق إلى الأبد على أية تسوية مع الدولة الفلسطينية، والفصل بشكل لم يسبق له مثيل بين تجمعات الشعب الفلسطيني بحيث لا يعودون قادرين على بناء مجتمع أو اقامة دولة ، تدمير قطاع غزة وتهجير أهله هو محو للجغرافيا التي حمت وحضنت وغذت الهوية الوطنية الفلسطينية . هذه الأهداف الحقيقية لنتنياهو في استمرار حربه على القطاع، حيث من الممكن ان يخفض من وتيرتها ولكنه بالتأكيد لن ينهي احتلاله للقطاع ، حتى لو كانت هناك مفاوضات مع أطراف عربية أو دولية أو فلسطينية لكيفية إدارة القطاع، فإسرائيل هذه المرة ، تريد ان تتحكم بكل ما يتعلق بحياة القطاع وحياة أهله. هذه الأهداف تتضمن أيضاً العمل على تهجير المواطن الفلسطيني بكل السبل المتاحة. هذا يعني في النهاية أن نتنياهو يستثمر في الحرب لإطالة حكمه واطالة الاحتلال واطالة الصراع أيضاً.
المحتجزون الاسرائيليون وأهل القطاع
يكاد يجمع الزعماء في الشرق والغرب في تصريحاتهم على ان اطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة هو المطلب الأول لهم، فلا شيء يشغلهم أو يستوقفهم أو يهمهم سوى هؤلاء الأسرى ، بل هناك من يتباكى عليهم ويشير الى معاناة أهاليهم وضرورة لم شمل العائلات ، وهناك من يشير الى سوء معاملتهم وقسوة الظروف التي يعيشون تحتها . ونحن لسنا ضد إطلاق سراح كل أسير على وجه هذه الأرض لأن ذلك يضمن اطلاق سراح أكثر من عشرة آلاف أسير فلسطيني لا احد يتذكرهم ولا أحد يتعاطف معهم ولا أحد يطالب بإطلاق سراحهم أو العمل على تحسين شروط اعتقالهم رغم كل ما يصدر من أخبار مروعة عن ظروف اعتقالهم. ان التباكي على الأسرى الاسرائيليين هو جزء من هذا النفاق والخداع والازدواجية وسيطرة القوة، وهو يعكس أن الغرب الاستعماري بالذات إنما يعطي اسرائيل كل ما تحتاج من شرعيات وأموال وسلاح وحماية وتبنٍ للرواية الاسرائيلية لمجمل الصراع . بكلمات أخرى ، إن هذه التصريحات ليست مجرد كلمات وليست مجرد مجاملة مجانية، بل هي رؤية كاملة للصراع ، فالغرب الاستعماري اسقط كل الاقنعة عن وجهه ولم يعد يجامل أحداً على الاطلاق، فهو لن يسمح بهزيمة إسرائيل أو انتقادها أو سحب الشرعية عن افعالها، هذه المرة ، يقف الغرب عاريا تماماً لتظهر عورته القبيحة تماماً ، كما عبرت عن ذلك وزيرة الخارجية الألمانية بالقول ان كل الأهداف المدينة الفلسطينية تسقط مبررات حمايتها لأنها تستعمل كمأوى للإرهابيين ، أو كما قالت .. الى هنا وصلت الأمور.
الهجرة من بلادنا
يجب ان نعترف ، هناك هجرة بين مواطنينا ، ولا اقول الشباب فقط، هناك أسر تهاجر، نعم، لا بد من القول ان ذلك يجري ، وبعيداً عن الشعارات والكلمات الكبيرة، فإن الادعاء المستخدم والأكثر شيوعاً لدى هؤلاء أن كل شيء تدهور، فلا أمن ولا أمان ولا استقرار ولا حياة هانئة ، وأن الاحتلال يضيق كل سبل العيش وهو لا يضيقه فقط بل يحرمنا سبل العيش ويحرمنا منها أيضاً، الاحتلال جعل من حياتنا جحيماً لا يطاق، فقد صادر الأرض وجفف المياه وأغلق الشارع ومنع البناء وحتى التنزه في الجبال ، وهناك فقر وازدحام وبيئة تحتية معدومة وبيئة ملوثة بما نعرف ولا نعرف، وهناك ظلم اجتماعي وفوارق وعدم انسجام وعنف داخلي على كل المستويات، والحرب أو ظروف الحرب تخرج أسوأ ما لدى الإنسان ، لهذا كله، فالهجرة صارت مخرجاً وحلاً سهلاً وقريباً ومتاحاً أيضاً لأسباب كثيرة لا تخفى على عاقل. أقول ذلك بكل ألم ، ولا أدعي هنا الحلول ولا أطرح سبل الخروج من هذه الورطة . فمنع الهجرة أو التقليل منها لا يعود لجهود مؤسساتية اجتماعية فقط، بل هي قرار فردي في نهاية الأمر ، الهجرة عذاب لمن لا يعرف والبقاء في الوطن عذاب أيضاً ، وعذاب عن عذاب يفرق كثيراً في الحقيقة.