بين التصعيد والتهدئة، التحديات والفرص في مواجهة التطورات الإقليمية
الكاتب: مروان طوباسي
في أيلول من العام الماضي 2023، وقف بنيامين نتنياهو من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة ليعرض رؤيته للشرق الأوسط الجديد، محاولاً رسم ملامح مستقبل المنطقة دون أن يكون لفلسطين أي وجود في خريطته. مشيراً إلى مشاريع طاقة وشبكات نقل تربط إسرائيل بالدول العربية والأوربية. كان نتنياهو يسعى لتسويق ما أسماه بالتعاون مع الأمريكان بالسلام الاقتصادي، متجاهلاً القضية الفلسطينية التي تمثل جوهر الصراع في المنطقة والحقوق السياسية غير القابلة للتصرف. جاءت محاولاته في إطار "اتفاقيات إبراهام" التي أبرمت مع بعض الدول العربية، والتي استهدفت تجاوز القضية الفلسطينية ضمن رؤية الرئيس الأمريكي السابق ترامب الذي ينتظر عودته مجدداً للبيت الابيض. ولم يُظهر جو بايدن لاحقاً أي تغيير في هذا الاتجاه، بل سعى لتدعيم هذه الاتفاقيات ومحاولة إبرام صفقة السلام السعودية الإسرائيلية، متجاهلاً حقوق الفلسطينيين ومؤكداً بذلك على أن السلام بين العرب وإسرائيل يمكن تحقيقه دونهم وبتجاوز شعبنا، وليخدم رؤيته الصهيونية في إقامة وتنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى.
السابع من أكتوبر
ومع ذلك، فقد جاء هجوم يوم السابع من أكتوبر بما له وما عليه من وجهات نظر مختلفة يتوجب تقييمها لاحقا، كصدمة لإسرائيل والمجتمع الدولي وحتى لنا، والذي هُزمت به نظريات التفوق الإسرائيلي والجيش الذي لا يقهر وكشف عن ثغرات قائمة ودفع إلى تصعيد أزمات اقتصادية وسياسية بالمجتمع الإسرائيلي، دفعت إسرائيل نحو حرب مفتوحة على عدة جبهات ربما كانت تخطط لها سابقاً لتنفيذ ملامح تلك الخريطة لنتنياهو والتي كان الرئيس المؤسس ياسر عرفات قد حذر منها بالقمة العربية في بغداد في وقت سابق. بعد عام من حرب الاقتلاع العرقي والعدوان العسكري المجنون، استمرت إسرائيل في الإبادة والحرق وتدمير البنية التحتية الفلسطينية بل وكل شيء، مما أدى إلى سقوط عشرات الآلاف من الضحايا. كانت الفظائع المرتكبة كفيلة بأن تهز الرأي العام العالمي، مما أثار موجات من الاحتجاجات في العديد من الدول العربية والعالمية ومنها قوى يهودية معادية للصهيونية، داعيةً إلى مقاطعة دولة الاحتلال وعزلها، وتوجيهها نحو قفص العدالة الدولية.
تزايد الاستيطان وجرائم الاحتلال
بينما تتزايد الجرائم الإسرائيلية في غزة خلال الأيام الماضية لتنفيذ خطة الجنرالات بشمال القطاع وتكريس إعادة الاحتلال بأشكال جديدة مبتكرة. تصاعدت بالضفة الغربية بما فيها القدس سياسة الاستيطان والابرتهايد، وتم اقتحام المخيمات والقرى والمدن، مما أدى إلى تدمير الحياة اليومية للفلسطينيين. فجعلت هذه السياسات من السلطة الوطنية سلطة بلا سلطة وبلا مال، حيث تم إضعافها اقتصاديا واجتماعيا مما أثّر على مكانتها في أوساط شعبنا وزاد من الفجوة القائمة بالعلاقة التشاركية ومفهوم المواطنة بين شعبنا والقيادة على إثر تداعيات الانقلاب بداية ومن ثم الانقسام وغياب الانتخابات التشريعية المفترضة ووضوح فصل السلطات إضافة إلى غياب واضح للمسؤولية العربية والتضامن المفترض أساساً وفق مشروع قومي عربي موحد لا وجود له واقعاً وأساساً. في وقت قطعت عدد من الدول وعلى وجه التحديد اللاتينية منها علاقاتها بدولة الاحتلال واتخذ البعض الآخر قرارات بحظر تصدير الأسلحة ومنع مشاركتها في لقاءات وفعاليات دولية نتيجة الضغوط الشعبية المتزايدة في عدد من الدول الأوروبية.
تزايد عمليات المقاومة اللبنانية
في خضم هذا الواقع، بدأت المقاومة اللبنانية في تصعيد عملياتها ضد إسرائيل تضامناً ودعماً لشعبنا. لقد نفذت المقاومة هجمات مؤثرة، مما أدى إلى سقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى في صفوف القوات الإسرائيلية والمستوطنين ولجوء الملايين إلى الملاجئ لأول مرة. من الواضح أن المقاومة اللبنانية تسعى لرفع كلفة الاحتلال من خلال عمليات نوعية متصاعدة وفق قاعدة التعامل بالمثل تستهدف أساساً مواقع عسكرية للاحتلال، مما قد يساهم في إحداث تغيير في السياسات الإسرائيلية وإعادة النظر في جدوى التصعيد.
وفي قطاع غزة رغم تغير سيكولوجية الناس على إثر حجم الإجرام الإسرائيلي المتواصل وما لحقها وما لحق المقاومة على إثر ذلك ومن محاولات القضاء عليها رغم عدم التمكن النسبي لإسرائيل من تحقيق أهدافها المعلنة كافة، بقيت جيوب من خلايا المقاومة تعمل وفق عقيدة حرب العصابات لمحاولة إنزال الخسائر في صفوف عسكر الاحتلال دون امدادات كما حصل مع حركات تحرر ومقاومة في دول أخرى من العالم حققت انتصاراتها. إلا أن العديد من مظاهر الفوضى وعدم الالتزام قد بدأت تظهر في الشوارع، الأمر الذي يجب أن يدفع الكل الوطني لتجاوز أي خلافات حول شعارات وهمية أطلقها الأمريكان من ما سمي باليوم التالي بعد تعيين حاكما عسكريا ومدنيا لقطاع غزة في إشارة لنوايا إبقاء الاحتلال وإعادة الاستيطان ربما بعد تقسيم القطاع. وضرورة أن يصل الكل الفلسطيني الوطني لرؤية من التوافق لحماية ما تبقى من شعبنا الصامد هنالك وتمكينه من قدرات الصمود التي تحاول بعض العصابات المنتفعة الاضرار بها في ظلال الاحتلال الذي يجب أن ينتهي بشكل كامل ليتم التمكن لاحقاً من إعادة الإعمار.
وهنا أشير إلى مقولة هنري كيسنجر بالرغم من انه ثعلب الدبلوماسية الأمريكية الماكر الذي قال "طالما أن الجيش التكتيكي النظامي لم ينتصر فهو يخسر، وطالما لم تنتصر حركات المقاومة فإنها لا تخسر."
فالمقاومة يتوجب أن تكون غير مغامرة دون حسابات، فالمطلوب منها إلحاق الضرر والخسائر والتأثير في مجتمع دولة الاحتلال لإحداث تغيير من خلال رفع كلفته، كما وحماية شعبها من الاضرار وضمان استمرار حضانته الشعبية لها.
التوازن العسكري في المنطقة.
في هذا السياق، تتزايد التهديدات الإسرائيلية تجاه إيران، كقوة إقليمية رئيسية تسعى لأن تكون لاعباً هاماً في الساحة الدولية في إطار تحالفاتها مع روسيا والصين وبجانب منها مع تركيا وفي إطار تجمع البريكس. يأتي ذلك في ظل تعزيز التعاون الإستراتيجي المستدام السياسي والعسكري بين إسرائيل والولايات المتحدة بمقابل الدعم الروسي لإيران بأنظمة دفاع متقدمة وبرامج مساعدة بواسطة الأقمار الصناعية الصينية والروسية لتوجيه الصواريخ الحديثة، مما قد يقلب موازين القوة والردع في المنطقة بما يؤدي إلى التفكير ملياً بفكرة توسعة الحرب لتكون إقليمية ولربما أوسع نظراً لأسباب عدة أخرى من أهمها الآن حرص الإدارة الامريكية الحالية على الفوز بالانتخابات والتداعيات الاقتصادية على مكانة الدولار والمعابر والطرق الملاحية وتأثيرها على عجلة الاقتصاد العالمي من جهة، واهتمام الولايات المتحدة بأولويات أخرى في وسط أوروبا وبحر الصين وأمريكا اللاتينية لضمان استمرار هيمنتها وتحدي التمدد الصيني والروسي رغم أهمية الشرق الأوسط لها منذ الإنزال العسكري لها في لبنان عام 1958 وما تبع ذلك لاحقاً.
الرؤية الفلسطينية ومواجهة الاحتلال
على الرغم من التحديات الصعبة غير المسبوقة في تاريخ كفاحنا الوطني، يبقى شعبنا الفلسطيني متمسك بحقوقه ومطلق الحرص دون تكرار تجربة الماضي من الهجرة زمن جريمة النكبة الأولى. حيث يسعى شعبنا الفلسطيني بمكوناته المتعددة لمحاولات بناء استراتيجية مقاومة تستند إلى التضامن الدولي والحراك الدبلوماسي في المنظمات الدولية لفرض مزيداً من العزلة على إسرائيل كدولة مارقة فوق القانون الدولي. لقد أظهرت الحركات الشعبية الدولية وحتى عدد من الحكومات المترددة سابقاً بالعالم دعماً متزايداً للقضية الفلسطينية، مما يعكس رغبة العالم في رؤية تغيير حقيقي في سياسات الاحتلال نحو ونحو الوصول إلى وقف لإطلاق النار يتبعه محاولة إيجاد مسار سياسي يفضي إلى معالجات جذر المشكلة بمنطقتنا.
نحو مقاومة وطنية مستدامة
قد تؤدي عقلية نتنياهو اليمينية المتطرفة المسيانية - الجابوتنسكية إلى جر المنطقة نحو صراعات جديدة، لكن من المستبعد أن تنجح في فرض رؤيتها للشرق الأوسط الجديد وتنفيذ الاسم الآخر له إسرائيل الكبرى. إن المعادلات تتغير، والقوى الإقليمية تعيد تشكيل موازينها في آليات الردع، مما يفتح المجال أمام مقاومة لبنانية وفلسطينية قوية تستند إلى حضانة الجماهير بأشكال متجددة. وعلينا نحن الفلسطينيين تعزيز حركتنا الوطنية على أسس ديمقراطية تشاركية في إطار منظمة التحرير وتفعيل دورها كقائد لمرحلة التحرر الوطني نحو وقف حرب الإبادة وإنهاء الاحتلال على قاعدة وحدة الأرض والشعب، مع التركيز على بناء التحالفات الدولية بالمنظمة الدولية نحو إقرار فصل دولة الاحتلال أو تجميد عضويتها بالحد الأدنى رغم الحماية الأمريكية لها. إن السعي لوقف الغطرسة الإسرائيلية هو واجب عالمي إنساني وأخلاقي وقانوني يتطلب جهداً جماعيا عمليا ، ولعل ضرورة وضوح دور مؤسسات السلطة الوطنية كحامية الحقوق الوطنية السياسية والمسؤولة عن تمكين شعبنا من الصمود وإدارة شؤونه، إضافة إلى المقاومة الشعبية المتكاملة والمتنوعة وفق الوقائع والظروف والمستندة لمراجعات المرحلة السابقة وتداعياتها وإلى رؤية سياسية موحدة وواضحة لتحقيق انجازات نوعية وحماية شعبنا من البطش به ومحاولات تهجيره، تكون هي السبيل نحو تحقيق الحقوق التاريخية السياسية لشعبنا الفلسطيني بعيداً عن السراب الأمريكي المخادع والذي لن يختلف باختلاف الإدارات في واشنطن التي تعمل وفق مصالح واحدة وإستدامة سيطرة الاحتلال.