ماذا تريد إسرائيل في شمال غزة؟
الكاتب: أشرف العجرمي
بعد عودة جيش الاحتلال للمرة الرابعة لاجتياح شمال قطاع غزة والتركيز بصورة خاصة على مخيم جباليا، لا يبدو أن هناك خطة إسرائيلية واضحة فيما يتعلق بالوضع في هذه المنطقة سواء على المدى القريب أو البعيد. وتظهر عمليات الجيش التي تتميز بعنف أكثر من المرات السابقة تخبطاً. وفي كل مرة تطالب سلطات الاحتلال المواطنين بالرحيل والمغادرة إلى جنوب قطاع غزة عن طريق شارع صلاح الدين شرقاً وشارع الرشيد غرباً، وفي كل مرة أيضاً يرفض المواطنون المغادرة على ضوء القناعة بأنه لا توجد منطقة آمنة وأن الخطر في كل مكان. وحتى الآن تمتنع قوات جيش الاحتلال عن تحديد منطقة آمنة في شمال القطاع على غرار المنطقة الآمنة في الجنوب.
في الواقع، لا توجد خطة إسرائيلية مقرة بخصوص شمال قطاع غزة. وتطرح بين الفينة والأخرى خطط ومشاريع تتراوح من بين إفراغ منطقة الشمال بشكل كامل للقضاء على المسلحين الذين سيبقون في الأنفاق أو مخابئ أخرى، ودفعهم إما للاستسلام أو الموت جوعاً أو القتل إذا تم الوصول إليهم. كما تنص على ذلك خطة الجنرال غيورا آيلاند التي تسمى «خطة الجنرالات»، والتي تتحدث عن «تطهير» كامل لهذه المنطقة وتحديد فترة لخروج المواطنين للجنوب، وبعد انقضاء المهلة يتم اعتبار كل من يتبقون عناصر معادية ويتم فرض حصار مطبق على المنطقة يهدف إلى التجويع والقتل. وبين الاستمرار في عمليات الاجتياح كلما كانت هناك حاجة وعندما تعيد «حماس» تنظيم صفوفها. وأخيراً خطة بتسلئيل سموتريتش الذي يريد السيطرة الكاملة بعد القضاء على «حماس» وإعادة الاستيطان لغزة.
وقد حاولت إسرائيل في السابق البحث عن بدائل لحركة «حماس» في غزة من خلال تجنيد العائلات الغزية الكبيرة لتكون العشائر الكبيرة سلطة أمر واقع بالتعاون مع الاحتلال. وقامت السلطات الإسرائيلية بالاتصال فعلاً مع بعض المخاتير وكبار الشخصيات، ولكن هذه المحاولة فشلت. ثم عادوا يتحدثون عن فقاعات إنسانية، ولم يتم فعل شيء بهذا الشأن. وترفض إسرائيل عودة السلطة الفلسطينية لتولي المسؤولية والسيطرة في قطاع غزة. وبقي الموقف الرسمي بأنه لا «حماس» ولا سلطة. وحتى اللحظة لا يوجد أي خيار إسرائيلي واضح المعالم باستثناء عمليات الاجتياح والقتل وتدمير ما تبقى من بنى تحتية، ومحاولة دفع المواطنين للرحيل نحو الجنوب.
بعد مرور أكثر من عام على هجوم السابع من أكتوبر وحرب الإبادة على غزة، تفشل إسرائيل أمنياً وسياسياً. فهي لم تستطع القضاء على حركة «حماس» التي تلقت ضربات كبيرة ولكنها لا تزال قادرة على تنظيم صفوفها وممارسة المقاومة بمجموعات صغيرة تقوم بحرب عصابات ضد الجيش الإسرائيلي، ما يستدعى العودة مراراً للأماكن التي يجتاحها الجيش ويعتقد أنه قد قضى على كل المقاتلين فيها، فالأنفاق لا تزال قائمة والسلاح متوفر والأعداد اللازمة لحرب عصابات موجودة. و»حماس» لا تزال القوة الأهم والقادرة بسرعة على الانتظام والعودة للعمل في مختلف الميادين.
يبدو أنهم لا يفهمون في المستوى السياسي الإسرائيلي أن البديل الوحيد لحركة «حماس» هو بديل فلسطيني بامتياز ولا بد أن يرتبط بعودة السلطة الفلسطينية، وهذا يتم في إطار تفاهمات فلسطينية داخلية ولا يتم فرضه بأي شكل. وأي تغيير في واقع غزة، بما في ذلك ضمان الأمن والاستقرار، بحاجة لأفق سياسي وتدخلات عربية ودولية فاعلة وذات قدرات كبيرة. وهذا ما تحاول الحكومة الإسرائيلية تجنبه طوال الوقت. ومما يثير الاستغراب والدهشة أن المستوى الأمني الإسرائيلي أكثر نضجاً وواقعية من القيادة السياسية التي باتت محكومة بمصالح شخصية، بما فيها مصلحة بقاء رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو.
فرجالات الجيش وأذرع الأمن المختلفة وصلوا لقناعة بأن الحرب استنفدت أهدافها ولم يعد هناك ما يمكن فعله في القطاع، وأن هناك حاجة لفعل سياسي يخلق واقعاً أكثر استدامة، وهؤلاء يميلون للاعتماد على التدخلات الإقليمية والدولية. والحكومة لا تزال ترفض وتعتمد الخيار العسكري كخيار وحيد، ولا ترى أي مجال لأي فعل سياسي يمكنه أن يملأ الفراغ الذي ينجم عن غياب سلطة بديلة. والعقلاء منهم يدركون أن الطرف الوحيد القادر على ملء الفراغ هو حركة «حماس» في ظل عدم تبلور أي سلطة مقبولة فلسطينياً في القطاع. وما تقوم به الحكومة في إطار العجز والهروب إلى الأمام هو المراوحة في المكان وخلق كل الشروط لعودة الوضع في غزة إلى سابق عهده.
وستبقى الحرب مستمرة ومعاناة المواطنين وتعرضهم الدائم للأذى طالما بقت هناك عناصر مقاومة وطالما لا يوجد بديل واقعي. وما يزيد الطين بلّة هو الوضع الفلسطيني الداخلي المأساوي والكارثي في ظل استمرار الانقسام، وغياب مبادرة فلسطينية جادة وحقيقية قادرة على وضع حلول آنية وبعيدة المدى لما يجري في غزة بالتعاون مع الأشقاء العرب والمنظومة الدولية. وحوارات الفصائل لا علاقة لها بالإحساس بالمسؤولية تجاه ما يحدث للشعب المكلوم، فهي تتصرف وكأن الظروف طبيعية ولديها كل الوقت لاستمرار هذه المهزلة. ولم يحركها حجم الضرر والدمار الذي يتعرض له الوطن والشعب.