للشعب الفلسطيني تاريخ واحد لكن له عدة قراءات
الكاتب: باسم برهوم
قراءة التاريخ لها عدة اوجه، في إسرائيل مثلا سادت القراءة الرسمية لحرب العام 1948، حتى النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين، عندما أفرجت السلطات عن جزء جديد من الوثائق المتعلقة بالحرب، وبرزت ظاهرة المؤرخين الجدد، الذين وبتفاوت قدموا قراءة مختلفة عن القراءة الرسمية، واعترف قسم منهم ان الهاغاناة والميليشيات الصهيونية الاخرى قد قامت بعملية تطهير عرقي للشعب الفلسطيني، وان ما تسمى"حرب الاستقلال" لم تكن صفحة مشرقة في تاريخ الدولة. في الجانب الفلسطيني جرت محالات خجولة لقراءة تاريخ صراعنا مع المشروع الصهيوني، فيها شيء من الروح النقدية للسردية التقليدية التي عزت المسار الذي انتهى بالنكبة الفظيعة الى مؤامرة كونية، ولم تقرأ جيدا الاخطاء التي ارتكبتها الحركة الوطنية وقيادتها، التي اقلها ساهمت في ان تكون النتيجة بهذا الشكل المفجع.
البعض يرى ان الشعب الفلسطيني لا يزال يخوض الصراع، وانه من غير الضروري التركيز على الاخطاء، ولكن هذا الرأي كان سببا في تغييب الوعي بالحقائق، وسببا رئيسيا في تكرار الاخطاء، واليوم بالتحديد، وبعد النكبة الثانية التي تصيب الشعب الفلسطيني وقضيته نحن بحاحة لقراءة مختلفة لتاريخنا بهدف تحصين الوعي بالمعرفة الحقيقية وليست المعرفة الخشبية والعدمية الزائفة. وأعتقد أن علينا ان نصر على إعادة قراءة تاريخ الحركة الوطنية قبل النكبة، قراءة تبتعد عن المسار الذي كرسه بعض زعماء تلك الحقبة، وهم من كتب تاريخ المرحلة في الغالب، وحاول اغلبهم ان يرمي المسؤولية على الطرف الآخر او العائلة الاخرى.
بعد عام من "طوفان حماس"، وما نجم عنه من نكبة ثانية، لست أنا من يقول بل الوقائع هي التي تقول، ما لفت نظري هذا الانجراف العاطفي الساحق، الذي لا تزال بعض ذيوله مستمرة، انبهارا ودعما أعمى لما قامت به حماس، إلى درجة انهم ليسوا على استعداد لرؤية الصورة بشكلها الاشمل، ولم يفكروا قط لا بتبعات هذا "الطوفان"، ولا بموازين القوى، ولا بالدعم الذي تتلقاه إسرائيل، الذي كان في كل مرة يفرض واقعا غير الذي بدأت فيه الاحداث، كما جرى، على سبيل المثال في حرب أكتوبر العام 1973. ويمكن الجزم ان احد اهم الأسباب الرئيسية لتكرار الاخطاء، ان أجيالا فلسطينيةوعربية لم يتح لها قراءة التاريخ بعيدا عن السردية العربية الرسمية، او انهم لم يقرأوا التاريخ من أساسه، وتبعوا عواطفهم وتلهفهم لأي شيء يمكن ان يلحق بإسرائيل الاذى دون التفكير بالعواقب، إلى أن وصلنا للنكبة الثانية.
بالمناسبة، قلة قليلة من المثقفين الفلسطينيين والعرب رأوا نكبة العام 1948 قبل ان تقع، وان من قال لنا إننا في نكبة واطلق على هذه الفاجعة هذا المصطلح "نكبة" هو المفكر والمؤرخ السوري قسطنطين زريق. واليوم يتكرر التاريخ وقسم كبير منا لا يرى حتى الان أننا في نكبة ثانية ويجب أن نتصدى لها. هذا التغييب للعقل والتفكير الواعي، لم يأت صدفة، ولا يمثل رغبة عند الجماهير بل هو نتاج نقص المعرفة التاريخية، ونقص المعرفة في الإطار العام، وهو نتاج نظام عربي كان من مصلحته تغييب المعرفة، وغيب بشكل مقصود اي قراءة نقدية للتاريخ المعاصر، والتاريخ العربي كله، وهو الفخ الذي وقعت فيه أجيال من الكتاب الفلسطينيين ايضا.
ما نحتاج اليه في فهم الواقع الراهن وكيف كررنا مشهد النكبة، ان نعيد قراءة تاريخ ووقائع الصراع من جديد وبطريقة نقدية موضوعية، لنعرف الأسباب التي اوصلتنا إلى النكبة الأولى، وقد نكتشف انها الأسبابذاتها او معظمها توصلنا اليوم للنكبة الثانية. قراءة تراجع مواقف الحركة الوطنية في كل المراحل والحقبات، ونلاحظ أسباب عدم القدرة على اتخاذ المواقف العملية، والتمييز بين ماهو عملي واستراتيجي، وبين رؤية الواقع المباشر وما يحتاجه من مواقف، وبين الصلابة في التمسك بالاهداف، قيادة الحركة الوطنية قبل نكبة العام 1948لم تكن مؤهلة في معظم اللحظات المصيرية ان لم يكن كلها في اتخاذ المواقف الصحيحة، التي من شأنها التقليل من الخسائر وعدم إعطاء العدو الصهيوني الفرص السهلة للتمدد والتوسع وتنمية "الوطن القومي اليهودي" الى ان وصلنا الى التطهير العرقي والنكبة بشكله المريع الذي ألغى وجود فلسطين كليا عن الخارطة.
الحاجة لإعادة قراءة وكتابة التاريخ ليست هدفا بحد ذاته، وإنما هو وسيلة لفهم الحاضر بطريقة افضل، ورسم ملامح مستقبل يحمل آمال حقيقية وليست وهمية. قراءة التاريخ بالضرورة ان تكون جزءا من عملية بناء، وتقرير استراتيجية مختلفة، ومن يعتقد انه يستطيع القفز عن هذه المحطة، انما يصر على الابقاء على الفجوات المعتمة بالوعي.