كذبة الحرب الوجودية
الكاتب: د. محمد عودة
الاعتقاد السائد أن إسرائيل لا تحتمل الهزيمة وليست جاهزة للاستمرار في حرب طويلة فقد اعتادت على الحروب الحاسمة والسريعة، لكن ثبت بالدليل القاطع أن هذا الاعتقاد غير صحيح وأن إسرائيل تستطيع خوض حرب طويلة تعدت العدوان على الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده إلى معاقبة كل من يقف مع فلسطين فعلاً وقولاً.
لأشهر طويلة قبل هذا العدوان كان المجتمع الإسرائيلي منقسم بين مؤيد ومعارض للإطاحة بآخر رمز من رموز الديموقراطية المزعومة والمقصود هنا مؤسسة القضاء، وقد ملأ المعارضون شوارع تل أبيب على مدى شهور مطالبين بالإطاحة بحكومة اليمين إن لم تعدل عن الانقلاب القضائي من وجهة نظرهم.
تعمقت الأزمة بعد السابع من أكتوبر حيث عجز نتنياهو عن إعادة الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة سواء بممارسة الضغط العسكري أو عن طريق المفاوضات ومع ذلك لم يكن المجتمع منقسماً بما يخص العدوان على الشعب الفلسطيني فغالبية مكونات المجتمع الإسرائيلي تؤيد القضاء على المقاومة وليس هذا فحسب بل ذهب البعض للمطالبة بإعادة الاستيطان في غزة.
الخلافات بين الإسرائيليين فقط كانت مرتبطة بإعادة الأسرى الإسرائيليين فالمعارضة وأهالي الاسرى يريدون عودتهم عبر صفقة والحكومة منذ اليوم الأول فعلت بروتوكول هنيبعل الذي يسمع للجيش بقتل الآسر والأسير وبالتالي إعادتهم بالقوة أو قتلهم.
طوال فترة الحلقة الأخيرة من العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني حاول اليمين المتطرف أن يقنع المجتمع بأن الحرب التي يخوضها هي حرب وجودية وليس هناك مجال لأي تنازل قد يشكل نهاية الكيان لم يتمكن المجرم نتنياهو من إقناع ذوي الأسرى بأن التفاوض مع حماس يعني الهزيمة، أما المعارضة فقد تمكن من جلبها إلى صفه بعد أن سحب القوات من الجنوب إلى الشمال بغية إعادة المهجرين من سكان شمال الكيان وما تبع ذلك من تسجيل نقاط تمثلت في تفجير أجهزة الاتصال والتي كانت تهدف إلى قتل خمسة آلاف لبناني مرة واحدة، ثم التفجيرات في اليوم التالي وبعدها جملة الاغتيالات التي طالت معظم قيادات الصف الأول من حزب الله بمن فيهم الأمين العام حسن نصر الله.
لقد برهن نتنياهو على قدرته على امتصاص الضربات واستعداده لدفع الثمن مهما غلا من أجل إنجاز مشروع الشرق الأوسط الجديد ضمن الرؤيا التي طرحها قبل ما يقارب ثلاثين عاماً في كتابه مكان بين الأمم، إسرائيل والعالم على أمل أن يجسد الدولة اليهودية في فلسطين عبر تهجير الجزء الأكبر من الفلسطينيين إلى الأردن ومصر إضافة إلى إنهاء ملف اللاجئين الفلسطينيين عبر التدمير الممنهج للمخيمات في فلسطين وضمن عدوانه على لبنان قد يلجأ إلى تهجير المخيمات كمقدمة لتدميرها على طريق تجسيد إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات عبر ارتكاب جرائم ضد الإنسانية يمارسها الكيان ضد الشعوب العربية بدءاً بتقتيل وتجويع وتدمير واستهداف المؤسسات الخدمية وطواقمها خاصة الصحة والتعليم والبنى التحتية سعياً وراء هزيمة الشعوب عبر ايصالهم إلى درجة الإحباط.
وعطفا على كل ما سلف فإن حرباً وجودية تستحق التضحية وبالتالي فإن نتنياهو جاهز لتدفع إسرائيل أثمان في الأرواح والممتلكات لم تكن جاهزة لدفعها في يوم من الأيام بالتأكيد ينطلق نتنياهو من قدرة عالية على تعويض الخسائر المادية مهما بلغت، أما الخسائر البشرية فيمكن تعويضها عبر استقدام مستوطنين من كل بقاع الأرض ومن أجل ذلك ومنذ زمن يتحدث الاعلام في إسرائيل عن السبط المفقود والمسمى السبط الثالث عشر ويساعده في ذلك رؤيا المسيحية الصهيونية التي ترى في جمع اليهود وسيلة لتسريع عودة المسيح.
لقد نجح نتنياهو في إشراك بعض دول الغرب وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية في حربه الوجودية حيث بالمنطق ستكون أقل كلفة الآن من الغد وقد ساعده في ذلك الرعب الذي يعيشه المجتمع الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر حتى الآن هذا الرعب تجسد في تنامي الوحشية في التعامل مع الشعب الفلسطيني وأخيراً مع لبنان ومن يدري إلى أين سيمتد هذا العدوان، فربما يضيف دولاً أخرى إلى قائمة الدول التي يعتدي عليها ليل نهار.
كما نجح نتنياهو في وضع المواطن الإسرائيلي أمام خيارات صعبة على المواطن أن يختار بين قيم هي غير موجودة أصلاً وإن وجدت فهي تخص اليهود فقط وبين البقاء في دولة تعتبر وطنه الموعود.
يستغل نتنياهو قرب الانتخابات الأمريكية وغياب الإرادة سواءً من الجمهوريين أو الديمقراطيين لممارسة أي شكل من أشكال الضغط عليه لوقف الحرب وكحد أدني تخفيف وطأتها. كما أن نتنياهو يستغل تواطؤ بعض الأطراف العربية وغياب من تبقى من العرب والمسلمين إلا من رحم ربي.
هذا العدوان عنوانه واضح إبقاء القول الفصل في المنطقة بيد إسرائيل وإعادة ترميم صورتها لتعود قوة رادعة لكل من تسوّل له نفسه إضافة إلى إعادة الرفاه والاستقرار إلى المجتمع الإسرائيلي.
إن الخيار الوحيد لإجهاض وإفشال هذا المشروع القديم الجديد يكمن في إنجاز الوحدة الفلسطينية على قاعدة المشروع الوطني الفلسطيني الذي تمثله منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني إضافة إلى استثمار الحراك الدولي غير المسبوق والاستعانة بالعمق العربي لتوفير عوامل الصمود وخوض مقاومة احترافية تمارس نضالها بطول نفس وتحترم القانون الدولي والإنساني ولا تتخلى عن القيم والمبادي والأخلاق.