في قراءة السابع من أكتوبر..!
الكاتب: أكرم عطا الله
لا يزال الجدل حول العملية التي قامت بها حركة حماس في السابع من أكتوبر يحظى بمساحة كبيرة من النقاش العام بين الفلسطينيين، فقد خلقت ردة الفعل الإسرائيلية المتوحشة تساؤلات عن جدوى العملية وما تحقق من نتائج وما تم دفعه من ثمن، وهل هي مغامرة غير محسوبة أم عملية الضرورة؟
ينقسم الفلسطينيون بين رؤيتين، جزء مؤيد ومعظم هذا الجزء يتواجد في الضفة الغربية والخارج، وجزء معارض يتواجد بمعظمه في قطاع غزة باستثناء مؤيدي حركة حماس، القطاع الذي وجد نفسه عارياً أمام الوحشية الإسرائيلية نازحاً في الخيام دون الحد الأدنى من مقومات الحياة الإنسانية ودون حماية.
السياسة والتاريخ لا تُقاس بعلم الرياضيات ونظرياته الجامدة، فهي ابنة الحياة التي تتداخل فيها عناصر كثيرة تجعلها دائمة الحركة. ومن هنا تكمن صعوبة الحكم على الحركة السياسية إلا في حال النصر الكامل أو الهزيمة الكاملة، ونظراً لأن الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين لم يُحسم بشكل كامل لأي منهما ما يتسبب بزيادة النقاش حول الوسائل التي يدير الفلسطينيون بها قضيتهم.
في حركة التاريخ ليس هناك شيء قطعي، فهو مجرد مجموعة ظواهر متحركة، وكل ظاهرة تحمل نقيضها كما يقال، وبالتالي لا شيء صحيح تماماً ولا شيء خطأ تماماً، فلولا الانتصار الأميركي الساحق في الحرب العالمية الثانية لما تمكنت الولايات المتحدة من قيادة العالم، ولولا الهزيمة اليابانية الساحقة لما تمكنت من بناء الدولة على أُسس علمية وصناعية متطورة تتفوق فيها على أوروبا وفي حالات معينة على الولايات المتحدة التي أرغمتها على الاستسلام.
لكن إحدى مدارس القياس هي المدرسة الأبيقورية التي تدعو لانتظار النتائج لمعرفة صوابية أو خطأ الخطوة، وتلك ربما تُخضِع السابع من أكتوبر لمحاكمة بين ضآلة الإنجازات وفداحة الخسارات. صحيح أن السابع من أكتوبر أظهر حجم الوحشية الإسرائيلية وكشفها كدولة مجرمة ودولة منبوذة من قبل رأي عام أُصيب بصدمة من فعل الإبادة الذي تناقلته وسائل الإعلام بالبث المباشر، وصحيح أنه مس بفكرة الاستقرار وأن تعيش إسرائيل كدولة طبيعية في المنطقة مع استمرار الاحتلال. ولكن هل كانت هذه الإنجازات المعروفة إلى حد ما وكانت تنكشف بفعل ما ينتجه التطرف الإسرائيلي من حكومات فاشية تستحق كل هذا الثمن؟
الثمن كان أكبر من أن تحتمله الحالة الفلسطينية. فقد تم دفعه من رأس المال واللحم الحي في منطقة لم يكن من المنطق التضحية بها بهذا الشكل المغامر. فردة الفعل الوحشية تمت ضد غزة، المنطقة التي تكفلت كمدينة ساحلية بإعادة بعث الهوية الوطنية لخصوصية اللجوء فيها، وهي من أنتجت حركة فتح وحماس والجهاد الإسلامي والانتفاضة الأولى وهبة النفق كدفيئة للكفاح الفلسطيني. فأن تتعرض لضربة تقصم ظهرها كما حدث، يعني كسراً للعمود الفقري للكفاح الفلسطيني، وتُعتبر ضربة استراتيجية للفلسطينيين استدعتها مغامرة السابع من أكتوبر.
لم تكن غزة على أجندة المشاريع الإسرائيلية. فلم يأت ذكرها في أي من الاتفاقيات الائتلافية لأشد حكومات إسرائيل تطرفاً. لكنها كانت حارسة الحلم الفلسطيني من بعيد، وهنا أطلق الحارس النار على قدميه نتاج فعل مغامر قام به، فحجم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل تقصد بها تغيير وعي تلك المنطقة التي لم يكن لديها مهنة سوى اختراع الفصائل والكفاح ضد إسرائيل، وقد كان نتنياهو يشير إلى تغيير وعي الألمان واليابانيين، ونعرف أن ذلك تم بفعل الإبادة التي ارتكبها الأميركي في تلك الدولتين ويشترك بها نفس الأميركي ضد قطاع غزة.
أُبيدت غزة والأعداد المهولة التي قتلتها إسرائيل أكبر من أن تحتملها الذاكرة المحشوة بالقهر، وبالقياس الديمغرافي تعادل ملايين في دول متوسطة الكثافة السكانية. ولكن ليس البشر وحدهم، فقد ذهب الجنون الإسرائيلي المنظم حد استدعاء مشاريعه القديمة مدمراً كل مقومات الحياة والبنية التحتية من شوارع وأبنية وطرق وشبكات المياه والكهرباء والمستشفيات والمدارس والجامعات، ما يجعل البقاء في غزة مسألة مستحيلة، أي جعلها غير صالحة للحياة، وهذه ليست مصادفة ولا ردة فعل فقط، بل فعل إستراتيجي بعيد.
بالإضافة لمأساتنا في فقد الأعزاء والتي ستبقى جرحاً غائراً على جدار الذاكرة المحشوة بالمآسي، ولن نتسامح بها مع إسرائيل ولن ننسى، فإن الأسوأ هو إفقاد الناس مقومات الحياة ودفعهم لحياة النزوح وتدمير النسيج الاجتماعي والبنية الاجتماعية التقليدية التي تكفلت بإنتاج الحركة السياسية، وتحويل الناس إلى حالة تسوّل جمعي يضرب جدوى العمل السياسي وجدوى الفصائل والتصدي لإسرائيل، فقد بلغ الألم حداً من التخدير الذي سيصيب الناس بلا مبالاة لسنوات قادمة.
لكن حجم الخسارات على المستوى الإقليمي لجهة ما تلقته قوى الممانعة التي تنتمي لها حركة حماس حداً يمكن إذا ما انتهت الحرب بما قدمته إسرائيل من تفوّق أن تنتهي بانكسار للمشروع الفلسطيني ومشروع الكفاح ضد إسرائيل، نحو مشروع التسليم بفائض القوة حد الهزيمة، كل هذا استدعاه السابع من أكتوبر الذي لم يكن أكثر من فعل لم يجرِ حسابُه، ولم يجر تنسيقه مع الحلفاء ولا حسابات موازين القوى وامتدادات إسرائيل ونوع الضربة التي لا تعطي إسرائيل مشروعية الإبادة. فضربة السابع من أكتوبر ضربة الإعداد النهائي إما أن تكون نهائية لا تقف بعدها إسرائيل على قدميها، وإما لا لأنها إذا وقفت بعدها على قدميها تكون لاحقت مرتكبها في احتياطاته ولحمه الحي. وهذا ما حدث، احذر أن تستفز الوحش دون قدرتك على كسره، في هذه الحالة لا يمكن تسميتها سوى مغامرة حالمة فقيرة الحساب.