اسرائيل بين المطرقة والسندان
الكاتب: مروان أميل طوباسي
من الناحية التكتيكية، يبدو أن إسرائيل قد حققت بعض "المكاسب" المؤقتة في غزة، حيث تمكنت من تدمير العديد من البنى التحتية واستهداف قادة وإعداد من مقاتلين المقاومة اضافة الى القتل الإجرامي باعمال الإبادة الجماعية لاعداد كبيرة من شعبنا غير مسبوقة في تاريخ صراعنا مع المشروع الصهيوني منذ بداياته رغم كل جرائمه ، اضافة الى جعل غزة مكانا غير قابل للحياة . وبعدها أدخلت اسرائيل اطراف عدة في نقاش حول اشكال وطبيعة ما يسمى باليوم التالي ، وكأن موضوع الصراع يقتصر على غزة دون كافة الأراضي المحتلة وضرورة إنهاء الأحتلال ، وذلك بهدف التغطية على ما يجري من تنفيذ لمشروعها في غزة ولاستدامة الأحتلال ومشروع الحسم المبكر الصهيوني بالضفة الغربية واعادة حصار اي كيان قد ينشئ في غزة وفق "الرؤية المتجددة للأمريكان وبعض العرب " أو احتلالها بأشكال جديدة دون ضجيج دولي . الا انها تفتقد اليوم الى ما ارعبت به المنطقة طيلة العقود الماضية من نظريات تفوق الردع والانتصارات الحاسمة .
وعلى الجبهة الشمالية مع لبنان، فإن الهجمات على أنظمة الاتصالات ومحاولات إضعاف حزب الله قد تكون جزءاً من هذه المكاسب التكتيكية التي تعتقد بها . ومع ذلك، فإن هذه "الانتصارات" محدودة في التأثير، لأنها لا تعالج القضايا الأساسية التي تواجهها إسرائيل ومنها ما يعلن من اهداف لإعادة المستوطنين الى المستعمرات الشمالية وتغير قواعد الاشتباك مع حزب الله وإنهاء نشاط المقاومة اللبنانية هنالك .
إسرائيل الآن تواجه أزمة استراتيجية كبيرة على الرغم من هذه الانتصارات التكتيكية، فإنها لا تزال غير قادرة على تحقيق حسم استراتيجي أو إيجاد حل دائم للصراع ، سواء في غزة أو على الحدود الشمالية مع حزب الله. أحد الأسباب الرئيسية لهذه الأزمة هو الانتظار الطويل لنتائج الانتخابات الأمريكية، حيث تلعب الولايات المتحدة دوراً محورياً في دعم إسرائيل وتوجيه سياساتها الخارجية والأمنية ، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية بمنطقتنا .
في هذا السياق، إسرائيل قد تجد نفسها في مأزق استراتيجي، حيث أنها لا تستطيع اتخاذ خطوات حاسمة دون معرفة مواقف الإدارة الأمريكية المستقبلية، سواء كانت بقيادة هاريس أو إدارة جديدة بقيادة ترامب قد تغير مواقفها تجاه الشرق الأوسط ، او ان تكون اسرائيل بانتظار فوز ترامب الذي يقترب عقائديا من نتنياهو ومصالح اليمين اليبرالي الجديد بالعالم الذي يتمدد نفوذه اليوم ويضمن لإسرائيل مواقف الدعم الإستراتيجي الكامل اكثر من هاريس وحزبها الذي لا يختلف من حيث محددات تلك العلاقة الإستراتيجية مع اسرائيل الا في هوامش ورؤية الحزبين حول القضايا العالمية الأوسع بشكل غير اساسي .
لكن هذا يجعل إسرائيل في وضعية تردد استراتيجي، فهي تحاول تحقيق مكاسب مؤقتة لتقوية موقفها التفاوضي خاصة مع المقترح الجديد الذي اعلنته اليوم بشان الصفقة مع حماس والرسائل الموجهة لحزب الله في ان واحد ، لكنها تدرك أن الوضع الراهن غير قابل للأستمرار على المدى الطويل بدون دعم أمريكي واضح وكبير واستقرار داخلي إسرائيلي الذي من المتوقع أن يتحقق كما جرت الاحداث السابقة عندما يتعلق الأمر بمخاطر وجودية على إسرائيل ، وبذلك ترغب في استمرار الدوران في حلقة مفرغة من المفاوضات بوجود دول الوساطة دون تحقيق شيئ سوى استمرار الوضع القائم .
من جهة اخرى ، فان الأزمات الداخلية التي تعيشها إسرائيل تلعب دوراً كبيراً في تأخير اتخاذ قرارات نهائية بخصوص الجبهتين الشمالية والجنوبية. هذه الأزمات تشمل الانقسامات السياسية والاجتماعية والطائفية الحادة حول حكومة نتنياهو، التي تواجه انتقادات واسعة، خاصة فيما يتعلق بإصلاحات القضاء والخلافات بين الأحزاب اليمينية والدينية والليبرالية داخل الحكومة والمجتمع منذ ما قبل ٧ أكتوبر الماضي، بالإضافة إلى ذلك، هناك احتجاجات شعبية مستمرة ومتصاعدة بالشارع الإسرائيلي التي تطالب بابرام صفقة فورية مع حماس بهدف الإفراج عن الأسرى الاسرائيلين واسقاط حكومة نتنياهو ، مما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار الداخلي.
هذا الوضع الداخلي المعقد يُضعف قدرة الحكومة الإسرائيلية على اتخاذ قرارات حاسمة بشأن غزة وحزب الله، حيث تحاول الحكومة تحقيق توازن بين التعامل مع التهديدات الخارجية والحفاظ على الاستقرار الداخلي. كما أن هذه الأزمات تجعل من الصعب على الحكومة تبني موقف موحد ومتماسك في التعامل مع التطورات على الحدود مع لبنان أو في غزة، وبالتالي تتأخر الاستراتيجيات الكبرى أو تتعرض للتعديل المستمر بناءً على التحديات الداخلية ، وعلى الطموح الشخصي والعقائدي لنتنياهو .
لذلك ، فان إسرائيل تجد نفسها بين المطرقة والسندان، فهي من جهة تواجه تهديدات أمنية على عدة جبهات، ومن جهة أخرى تعاني من ضعف في الوحدة السياسية والاجتماعية داخلياً. هذا يخلق حالة من التردد في اتخاذ القرارات الاستراتيجية المتعلقة بالأمن القومي، ويزيد من أهمية العوامل الخارجية مثل نتائج الانتخابات الأمريكية والمواقف الدولية خاصة مع قرارا الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي اتخذ امس بأغلبية ١٢٤ دولة امام الوقاحة الأمريكية بالمعارضة رغم ما شكل هذا القرار يوم امس من انتصارا لموقفنا الفلسطيني السياسي والجهود الدبلوماسية اثر القرار الأستشاري لمحكمة العدل الدولية والذي يتوجب البناء علية من طرفنا وفق مفاهيم المقاومة الدبلوماسية ، لأنها قد تعطي الدعم أو تفتح مجالات جديدة للتحرك على المستوى الإقليمي .
في ظل هذه الأزمات الداخلية، يمكن القول إن إسرائيل تعمل الآن على تحقيق مكاسب تكتيكية مؤقتة، لكنها لا تستطيع حسم الأمور استراتيجياً في ظل هذه الفوضى الداخلية التي تعيشها وسقوط ضحاياها بالشمال والجنوب من جهة ، وفي ظل قرارات المحاكم الدولية والمؤسسات الأممية وحالة الأنعزال التي تعيشها على المستوى الدولي اضافة الى المتغيرات الدولية والإقليمية الجارية بعد ٧ أكتوبر بما يتعارض مع الرغبات الأمريكية وبشكل خاص ما تم ايضاحه من جانب السعودية امس .