الشمس لا تحرق الشهداء!!
الكاتب: بثينة حمدان
ليست الأرض كروية، لو كانت كذلك لكنا وجدنا نقطة إلتقاء تجمعنا، وليس بها أي جاذبية، وإلا لجذبت الانسان نحو أخيه الانسان، وجذبت الخير والشر معاً دون تمييز، ولسنا نحن.. نحن قبل بدء حرب الإبادة على غزة التي غيرت موازيننا الشخصية، وتطلعاتنا، بل وغيرت شكل فرحنا وأحياناً وجوده، أما حزننا فأصبح أعمق وأكثر وجعاً، حتى لامبالاتنا نحو أشياء وأحداث كثيرة تضاعفت.
أنا من هذا الجمع الذي يرى كروية الأرض ولا بالكثير من الثوابت العلمية، فالحرب تترك يومياً أثراً بالغاً وبليغاً من الصعب وصفه؛ بدأ الموت في غزة قاسياً وصار أقسى ولا نعرف شكل القسوة القادمة. لا نعرف إن كان هناك أبشع من بكاء رُضّعِ من الجوع حتى الموت! ولم نكن نعرف أن هناك أقسى من موت الخُدّج بسبب انقطاع الكهرباء في أول الحرب في مشفى الشفاء! ولم نعرف أن أصوات الأحياء في رفح والنصيرات ودير البلح اليوم باتت موجعة أكثر من أصوات الأحياء الشهداء الذين هُدِمَت المباني على رؤسهم فصرخوا.. وهل هناك أقسى من أم تنادي ابنها مستصرخة استشهاده دون تناول عشاءه، أما اليوم فيستشهدون دون عشاء وغداء ولا ماء.. ودون فرح!
لقد نقلت لي مشاهد الحرب المروعة القوة أحياناً والوهن أحياناً أخرى. اجتهدنا في بدايتها ثم قتلنا الوقت الذي جعلنا عاجزين ونحن على بعد ساعتين أو ثلاث من حاجز إيرز الاحتلالي المؤدي إلى غزة لكننا لا نستطيع فعل شيء. حاولت تقديم شيء مقابل الفرح والابداع والحب الذي منحتنا إياه غزة رغم الحصار والفقر وانسداد الأفق فيها لسنوات ومازالت. في الحقيقة لم أعرف يوماً كيف تنسج غزة الفرح دون خيوط، وترسمه دون ألوان، وتغنيه دون أوتار تحت الحصار والاحتلال وحروب متلاحقة.
ومع استمرار أيام الحرب الثقيلة القاتلة السوداء سواداً لم تعرفه الأرض يوماً، سواداً يتخطى اللون الطبيعي، لم يعد يبهرني شيئاً من فرح الدنيا وكروبها، وازدادت مساحة المحتوى السطحي على المنصات الاجتماعية، فهو في أعلى مستوياته انحطاطاً، لأن ما نعيشه مع غزة هو في أقسى وأعمق حالاته من الألم والحب والبكاء والاحتمال وربما وأحياناً الفرح المستمد من بعض الأصدقاء هناك والذي يبزغ رغم لون الدماء القاتمة.
إنهم هناك تحت أزيز الموت يسجلون صوتهم ومقاطع فيديو تحت وطأة القصف العنيف والموت الجماعي فيأتي صوتهم عبر الهاتف الذكي مرتجفاً: "سامحينا..! وأنتظر موتهم معهم، وأضطر للنوم ثم أستيقظ أبحث عن وسيلة اتصال معهم ثم نبكي اذا عاشوا ونبكي اذا استشهدوا ونبكي إذا أصيبوا.
وفي ظل كل هذا الوجع والاختلاط في المشاعر، يأتي صوت صديق يصف لي طريقه إلى الحمام وسط ثلاجات الموتى... يرى أماً تحتضن طفلها المكفن تحت حرارة الشمس، وقد نزعت حجابها وأسدلته لتحمي ابنها من الشمس، فيما تحترق هي من الداخل والخارج. لا أجد ما يطفيء قلب صديقي الشاهد للمشهد والناجي حتى الآن والذي قال لي: "الحرب في كفة وقلب تلك الأم الفلسطينية وسلوكها هذا في كفة أخرى، يا الله يا الله".
ليست الأشلاء ولا الأطراف المقطعة ولا الموت الجماعي.. يتوقف كل هذا وينحني ربما عند الأم والأب، نعم فهذه الأم تحترق وعلينا هنا في الضفة أن نعيش التناقض، ونستيقظ لنساعد أطفالنا على الحياة واللعب والتعلم والفرح بالعيد والاستمتاع بالشمس، فيما قررت تلك الأم في غزة أن تحمي ابنها وتغطي الشمس وتحجب حرارتها عن طفلها الذي مات وفقد الاحساس بكل شيء وبقي جسده البريء الغض بارداً ينتظر أن يرتاح في التراب... شهيداً شهيداً معطراً بمسك الجنة القادمة.
أيتها الأم الثكلى الغالية: الشمس لا تحرق الموتى، لا تحرق الشهداء.. الشمس تحرق الأحياء ذوي الضمير الميت والجهل المُميت.