أسطورة صمود أهل غزة .. معجزة القرن الحادي والعشرين
الكاتب: د . محمود الفروخ
لقد امتحن الله الكثير من البشر منذ بدء الخليقة حتى يومنا هذا فكان الصبر بمثابة البسلم الذي يداوي جراح الإنسان وكان الصمود أمام هول هذه المصائب هو العلاج الذي يخفف بالأمل هذه الابتلاءات، وكانت هذه الابتلاءات تحمل صورا كثيرة كما ذكر القرآن الكريم تتمثل بالخوف والموت والجوع والفقر والمرض ...الخ ، واختبر فيها الأنبياء والرسل والصالحين والكثير من الناس لاسيما المؤمنين منهم على مدار التاريخ .
ولعل ما نشاهده في قطاع غزة منذ بداية العدوان الإسرائيلي في السابع من اكتوبر الماضي وحتى يومنا هذا على يد هذا الاحتلال من مجازر وقتل وتجويع وتعطيش وقطع للكهرباء ومنع للوقود والمستلزمات الطبية والأدوية والاغذية وجرائم التطهير العرقي والابادة الجماعية لعائلات بأكملها واستهداف المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ وكذلك قصف الكنائس والمساجد والمستشفيات والمدارس والمنازل بلا رحمة يأتي في هذا السياق، أي أنه رغم كل هذه الابتلاءات التي لا يتحملها بشر على وجه الارض ورغم اطنان المتفجرات والصواريخ والقذائف التي تروع الكبير قبل الصغير فإن حجم الصبر والصمود والعنفوان والبأس الذي نراه منهم على شاشات الفضائيات يشير الى أن هؤلاء المواطنين جبابرة أو اسبارطيون جدد أو عمالقة لاتفنيهم النكبات ولا تضعف من عزيمتهم الضربات .
ان صور الصمود المختلفة والمتنوعة للغزيين أمام كل هذا البطش والصلف والحقد الاسرائيلي الفاقد للأخلاق والانسانية والرحمة ورغم كل ما أحدثته آلة الحرب الإسرائيلية من مآسي إنسانية واجتماعية وتدميرية والتي لا نقلل منها أبدا ستجعل الكف ان شاء الله ينتصر على المخرز واللحم يهزم السيف المسلط على رقاب أهل غزة ليس منذ السابع من تشرين أول الماضي فقط بل منذ اكثر من ستة عشر عاما عندما فرض الاحتلال حصارا مطبقا عليهم .
ان الترانيم والادعية كانت السلاح الوحيد للغزيين في كربهم العظيم هذا في ظل عدم اكتراث وتقاعس وعجز الدول العربية والاسلامية والمجتمع الدولي ومؤسسات حقوق الانسان المختلفة بحالهم وبعدم قدرتهم على لجم اسرائيل وقف هذا العدوان الظالم ، ناهيك عن دعم الغرب وأميركا لاسرائيل اللامحدود في قتلها العبثي اليومي لالاف المواطنين في غزة ، فلم يبق لهؤلاء المكلومين والمحاصرين من الصديق والقريب قبل العدو والبعيد الا الله وصبرهم وصمودهم ليكملوا السير نحو حتفهم المكتوب في هجراتهم المميتة نحو الجنوب ، ولعلنا لن نجد في العالم أجمع صورا مجازية ومعبرة كتلك التي تظهر رجلا غزاويا أنهك السهر والخوف والجوع محياه يودع أبناءه وبناته الشهداء ويقول امام الجميع "هؤلاء فداءا للوطن والاقصى"، ولن تجد في اي مكان بالعالم امرأة تودع ابنها وهي تزغرد وتقول في سبيل الله والبلد ، ولن تجد مسنا يودع احفاده وهو يوصيهم دون دموع أو حزن بأن يسلموا على من سبقوهم من شهداء، ولن تجد أيضا طفلا صغير يلقن أخاه الشهاده قبل الموت وهو مصاب، ولن تجد أطفال يغنون معا والقذائف والصواريخ تتناثر من حولهم (شدو بعضكم يا أهل فلسطين شدو بعضكم) ، لم ولن تجد ذلك الا في الأساطير والروايات المقتبسة من الخيال ، ولن تجد أيضا في هذا الزمان اولادا وشبابا ورجالا يحفرون بأيديهم الخشنة بين البيوت المهدومة للبحث عن ناجين لانقاذهم ، ولن تجد أطباء وممرضين يعملون بالمستشفيات المختلفة بغزة أربع وعشرين ساعة وصدفة يستقبلون أولادهم وبناتهم وامهاتهم وابائهم وزوجاتهم اما مصابين ليعالجونهم أو شهداء ليدفنوهم وسط تكبيرات مليئة بقناطير من الايمان بقضاء الله وقدره ، ولن تجد صحفيا وهو على الهواء مباشرة ينقل للعالم أسماء الشهداء والجرحى بقصف طائرات الموت للابرياء يتلقى خبرا عاجلا باستشهاد كافة أفراد أسرته ويكمل التغطية والعمل وكأنه جبل لم يخشع ويحزن ويتصدع من هول هذا الحدث الجلل-"وائل الدحدوح نموذجا"- ، ولن تجد صبرا ولا صمودا ولا قوة ولا بأسا ولاشدة ولا قوة ولا تحمل لأكثر من اثني مليون وثلاثمئة الف نسمة يتعرضون لشتى أنواع الحصار والعذاب الجسدي والنفسي والمعنوي وتهدم بيوتهم واحلامهم وتنعدم مقومات حياتهم كافة ويقولون "نحن صامدون هنا لن نبرح مكاننا ولن نهاجر ولن نترك بيوتنا ولا غزتنا الحبيبة ولا أرضنا" الا في قطاع غزة، هذه البقعة التي أضاف اهلها ومقاوموها معجزة جديدة استثنائة غير تقليدية في القرن الواحد والعشرين تسمى الصبر والصمود والتحمل والمقاومة بمعناها الحقيقي والواقعي ، معجزة ستظل شاهدة على حجم المؤامرة والقهر والظلم الذي انصب على رؤوس المواطنين الغزيين دون أن يحرك دعاة الحق والحرية والديمقرلطية في العالم ساكنا .
ورغم كل ما ذكر لا بد أن يعلم الاحتلال ويدرك جيدا أنه السبب الرئيس في كل هذه الكوارث الإنسانية والصحية والاجتماعية والنفسية ...الخ ، التي حلت بالقطاع وأهله المحاصرين والمكلومين والمهجرين من بيوتهم قصرا والذين يعانون من ويلات الاحتلال منذ عام ٦٧ وحتى الآن ، وبالتالي هو من صنع جبروتهم وقسوتهم وعنادهم ليقاوموه ويكسروه ويهزموه ويلقنوه الدروس التي كان أولها عملية طوفان الاقصى ضد مستوطنات الاحتلال في غلاف غزة الشهر الماضي وآخرها لن تتكهن فيه لا أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية ولا العالمية ، وذلك كردة فعل طبيعية على جرائم هذا الاحتلال، حيث قال أمين عام الامم المتحدة أنتونيو غوتيرش في احدى خطاباته وتصريحاته الشجاعة السابقة أن عملية "طوفان الاقصى" ضد اسرائيل من قبل فصائل المقاومة الفلسطينية لم تأت من فراغ ، وليعرف الاحتلال جيدا أن هذا الصبر الحديدي والصمود الاسطوري سيشكل العلامة الفارقة في النصر القادم والمبين في لعبة "عض الأصابع" التي تمارسها إسرائيل ضد المواطنين بالقطاع والذين يشكلون حاضنة شعبية صابرة ومرابطة ومحتسبة رغم كل ما حل بها من أهات وألم ومعاناة غير مسبوقة لم تحدث في الحروب السابقة التي شنتها اسرائيل على الغزيين، والأهم من كل ذلك أن هذا الصبر وهذا الصمود الاسطوري "المعجزة" للغزيين سيبقى يلاحق هذا الاحتلال على مدار الزمان والتاريخ وسيولد جيلا لا يهمه الا الانتقام والثأر للأطفال والخدج والاجنة الصغار الذين قتلوا بالبارود والقنابل والقذائف والصواريخ والفسفور الأبيض والرصاص الاسرائيلي دون ذنب أو سبب الا انهم ولدوا في هذه البقعة المتمردة والرافضة للاحتلال وأعوانه ومن لف لفيفهم من العجم و العربان.