على ألمانيا أن تعتذر
الكاتب: أكرم عطا الله
هل الفلسطيني مسؤول عن تصويب الضمير الألماني الذي أصيب بلوثة يوماً ما ليحرق مدن أوروبا بمسيحييها ويهودها؟ وهل على الفلسطيني أن يدفع ثمن نزوة القارة التي طحنت نفسها؟ لن يكف الفلسطيني عن تحميل من هو مسؤول عن مسار التاريخ الذي سار مقلوباً على رأسه ليبقى محملاً بكل هذا الإرث الثقيل.
لو كنت ألمانياً كنت سأخجل من نفسي بسبب ماضٍ تسبب فيه واحد من شعبي بكل هذه الآلام البشرية، وسأخجل أكثر عندما أرى دولتي تمارس كل هذا الاستقواء والتنمر على شعب كنت جزءا من مأساته، شعب مسالم متواضع بسيط وفقير.
وهو استقواء لا يليق بأمة أو بمجتمع حضاري بل بسياسة مكشوفة ليس هدفها التكفير عن الماضي بل التزلف للحاضر المختل في استمرار لخلل في العقل الذي ارتكب جريمته مرة في أوروبا ومرة ضد اليهود والآن ضد الفلسطيني الضعيف.
ماذا لو جاء الرئيس ترامب وأهان ألمانيا في برلين؟ هل كانت ستجرؤ على الرد كما تفعل مع الفلسطينيين؟ ماذا لو شتمها بوتين؟ ماذا لو جاء رئيس وزراء إسرائيل وقال ما لا يعجبها في عاصمتها كيف كانت سترد؟ .
بالعادة الشعوب والدول التي تتعرض لهزة ضميرية فإنها تعود لاستنفار أخلاقها وتمارس السياسة بتواضع وحياد، لكن الهجمة بهذا الشكل على الفلسطيني الضعيف جاءت من طرف قيادة وشرطة وصحافة واستدعاء سفير وحملة لم ينقصها سوى تجنيد القوات المسلحة الألمانية، وربما لو لم تكن فلسطين تحت الاحتلال لقامت ألمانيا بغزوها ..ما هذا؟
تستحق الجامعة العربية ومصر كل التقدير وهي تشاهد كل هذه الفانتازيا السياسية والتمثيل المسرحي الزائد والزائف وتنتصر لابن جلدتها المظلوم دوماً، من حق ألمانيا أن تعتذر لليهود ومن حقها أن تعتذر لأوروبا، أن تحاول مسح خطايا التاريخ، هذا شأنها بل هذا واجبها ولكن أن تتسلق على كتف الفلسطيني المكسور التي كان لما ارتكبته من خطايا دور في خلق مأساته فهذا مخالف للحد الأدنى من ممارسات السياسة التي تحاول دوماً أن تتدثر بالأخلاق وخصوصاً لدى دولة قررت الحياد منذ سبعة عقود أو تقرر لها ذلك خوفاً من تكرار التجربة.
ليس مهماً ما قاله الرئيس الفلسطيني وهو لم ينكر المحرقة ولم تأخذ الدولة الألمانية بتوضيحه كأنها كانت تنتظر هفوة في غير مكانها لتطهير ضميرها من قصة لا ذنب للفلسطيني بها.
فلترعَ إسرائيل كما تشاء ولتدفع تعويضات عما ارتكبته، هذا شأنها ولتتصنع التعامي عمن دمر عملية السلام التي ذهب إليها الفلسطيني بكل براءته، ولتغلق أذنيها عندما يعلن رئيس وزراء إسرائيل على الملأ أنه لا يريد التفاوض مع الفلسطيني، ولتتجاهل ما دفعته من جيب دافع الضرائب الألماني لتمويل السلام ومن دمره، هذا يعنيها فكل دولة لها سياستها ومصالحها وعقدها التاريخية والنفسية لكن أن تلقي بكل تلك العقد على شعب خلفت مأساته فهذا قمة الاستخفاف.
من حق ألمانيا أن تطلب توضيحاً كما تفعل الدول ومن حقها أن تستدعي السفير هذا إذا كان الأمر يستحق، لكن أن تفتح شرطة ألمانيا تحقيقاً ضد رئيس شعب فهذه إهانة كبيرة لا أظن أن الفلسطيني المظلوم يمكن أن يتجرعها، فليس هكذا تدار السياسة ولا العلاقات بين الشعوب، ودول لا تدير سياستها بثقة لن تنتج سياسة سوية.
لقد تجاوزت ألمانيا الحد الأدنى المقبول من الاستقواء السياسي في معادلة ليست متكافئة أن تمارس دولة قوية اقتصادياً هذا القدر من التنمر ضد شعب لم يحصل على دولة فتلك مسألة تمس بالأخلاق، لأننا لم نلمس ما يشبهها رداً على التهديدات الروسية بعقابها.
وبصرف النظر عن تصريحات الرئيس وتوضيحاته والملاحظات الفلسطينية على الأداء الداخلي ورغبة الفلسطينيين بإجراء الانتخابات وكومة الخراب التي يجلسون عليها لكن الأمر هنا يتعلق بمظلمتهم جميعا وكراهيتهم للظلم وللدول التي لم تعد تميز بين الجلاد والضحية والظالم والمظلوم والقاتل والقتيل والمحتل والشعب تحت الاحتلال وحين يختلط الأمر يصبح الحديث في السياسة ومع الساسة أقرب لحالة السخرية.
لقد أخطأت ألمانيا كلها تجاه الفلسطينيين وأهانتهم، أهانت العقل الجمعي الفلسطيني والكيانية الفلسطينية. فالفلسطيني ليس مطية تتسلق عليها الدول مرة للتزلف ومرة لتطهير ضميرها فكل شيء مكشوف والتاريخ يمر أمامنا وعلى ألمانيا تقديم الاعتذار لما ألحقته من إهانة ليست بسيطة بالمعنى التاريخي، وعلى السلطة أن تتخذ إجراء لا أن تمرر المسألة من أجل مصالحها فهي لا تخصها وحدها أقلها استدعاء السفير وحرمان ألمانيا من أي دور في الملف الفلسطيني وفي الصراع.
فالملف الفلسطيني ملف حي وكثير من دول العالم تأخذ لها أدواراً من خلال التقارب مع الفلسطينيين وبعضهم يقاتل لعلاقة مع تنظيم صغير ليحظى باهتمام، وهذا نراه يوميا من صراع دول على احتكار أو تقاسم الفلسطينيين والتقارب معهم، وقد جمد الفلسطينيون قبل ذلك علاقتهم بالولايات المتحدة في عصر ترامب ولم تسقط السماء، وألمانيا ليست أكثر أهمية.
أوروبا هي من أقامت إسرائيل، والأزمة أن أوروبا بكل قوتها لم تعد تؤثر على إسرائيل وسيقل التأثير أكثر مستقبلاً مع استمرار النزوع الإسرائيلي نحو اليمين كمجتمع ونظام سياسي ونحو الدين والأسطورة فيما أوروبا هي قارة علمانية وواقعية لذا لم يكن مصادفة التقاء اليمين في إسرائيل مع المحافظين الجدد. هذا ما يحب أن تقرأه أوروبا وألمانيا قبلها التي لم تعد ذات شأن أمام الحكومات الإسرائيلية وحين تستسلم أمام حكومات اليمين لا يجوز لها الاستقواء على الفلسطيني كطرف ضعيف في المعادلة.
يجب ألا يتصرف الفلسطيني بذعر عندما يطرح سرديته التاريخية، هذا تاريخ ومؤسف أنه يضطر لإعادة تذكير العالم الذي لا يريد أن يرى الحقيقة، هو شعب تعرض لأسوأ عملية طرد وترحيل في العصر الحديث ومفترض من الدول المصابة بلسعة الضمير أن تنصف وتساعد إن تمكنت وإن لم تتمكن سيتفهم الفلسطيني مصالحها لكن أن تعطيه مواعظ في الأخلاق هذا لا يجوز لها ليس من أجل الفلسطيني فحسب بل من أجل تصويب التاريخ والحفاظ على ما تبقى من أخلاق في عالم السياسة والاقتصاد والمصالح المتوحش.
محزن أن نشاهد هذه الحملة الألمانية المحملة بإرث التاريخ، فالشعوب جميعها لديها أخطاؤها وكل دول أوروبا ارتكبت أخطاء كدول استعمارية وبعضها اعتذر عن تاريخه بثقة ؟ هذه طبيعة الأشياء فالتاريخ البشري محمل بالخطايا ولكن أن تصبح خطايا التاريخ مدخلاً لمزيد من الخطايا ضد الشعوب الفقيرة فهذا يعني إمعاناً في الخطأ وإمعاناً في احتقار التاريخ واستغبائه ...لكنه ليس غبياً إلى هذا الحد..!