تجليات أزمة كورونا وتداعيات سوق العمل الفلسطيني
بقلم: د. ســائـد الــكــونـــي
كثرت الآراء وتشعب الحديث عن جائحة فيروس كورونا، عالمية الطابع، ومنها ما تعلق بمصدر الفيروس وأسباب إنتشاره، حيث تكهن كثيرون بدورٍ لدول عظمى في صناعته والإسهام في إنتشاره، بغرض تغيير خارطة التحالفات السياسية والإقتصادية في العالم بما يخدم مصالحها الإستراتيجية، بينما سفّه البعض الأخر نظرية المؤامرة هذه، واعتبروها رديفاً لقصور علمي أو حتى خمول عقلي، في التعامل مع ظاهرة طبيعية أو بيئية، هي من باب أولى بحاجة إلى تحرٍ وبحث منطقي عن أسبابها، وتحليل وإجتهاد علمي لمعالجتها، عوضاً عن التسليم بها، والإستكانة إلى وجود مصالح قوى عالمية قادرة ومتنفذة، تفعل ما تريد، دون حسيب أو رقيب.
في خضم الصدمة التي يشهدها العالم اليوم بسبب هذه الجائحة، يبدو لي من المبكر ترجيح كفة أيٍ من الرأيين، ولا شك في أن الأيام القادمة كفيلة بذلك، ولكن الأمر الذي بات مؤكداً "لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد"، أن الحال ما قبل جائحة كورونا العالمية ليس كما هو بعدها في شتى المجالات وعلى كافة الأصعدة؛ اجتماعياً، واقتصادياً، وسياسياً، وثقافياً، وتشريعياً، واستراتيجياً وللقارئ أن يسمي غيرها ما شاء، وأقتصر في مقالتي هذه على بعض ما يختص منها بالأجواء المرتقبة لسوق العمل الفلسطينية، وما يتعلق تحديداً بطبيعة العلاقة بالقوى العاملة ومشغليها.
صنفت إغلاقات كورونا، التي تبعت صدور المرسوم الرئاسي الأول بإعلان حالة الطوارئ في الأراضي الفلسطينية، الموظفين إلى فسطاطين؛ أحدهما تفاعل إيجابياً مع جهود أرباب العمل وإدارات مختلف المؤسسات الرامية إلى زيادة التواصل الإلكتروني مع قواهم العاملة لترتيب أمور العمل في ظل الظروف المستجدة، وثانيهما لم تلق لديه تلك المحاولات آذاناً صاغية، تحت حجج وذرائع مختلفة ومتفاوتة في جديتها، وفي أجواء عامة حالت دون المساءلة الآنية لهم؛ أدبية كانت أو مهنية أو قانونية. من الواضح أن المنتمين للفريق الأخير لم يحسنوا قراءة الأحداث الراهنة وتبعياتها، أو درجة السوء التي يمكن أن تؤول إليها، ليس فقط على الصعيد العام ولكن أيضاً على صعيدهم الشخصي، فكان تعاملهم مع فترة الإغلاقات وكأنها هبة إلهية للتخلص المؤقت من ضغوطات العمل، والخلود للراحة المنزلية والاستمتاع بالأجواء الربيعية، حتى جاء المرسوم الرئاسي الثاني المتعلق بتمديد حالة الطوارئ والإغلاقات لشهر آخر، ليشعرهم بجدية وخطورة المرحلة، ولربما بطول أمدها، وبأنهم باتوا بعد مرور شهر الإغلاقات الأول خلف ركب العمل، الذي تواصل بتعاون زملائهم من الفريق الأول مع إداراتهم ومسؤوليهم. وفي هذا الخصوص، نشرت مواقع اعلامية بعض الإيجابيات التي بدأ العديد من المسؤولين والموظفين في مؤسسات عدة يشعرون بها جراء تجربتهم الحالية في العمل عن بُعد (من المنزل)، والتي تؤدي جميعها إلى زيادة في إنتاجية الموظف لأسباب منها: تعزيز مفهوم العمل بالإنجاز عوضاً عن صب بالغ الإهتمام على الإلتزام بمواعيد بدء ساعات العمل صباحاً وانتهائها مساءً، إضافة إلى إدارة أفضل للوقت واستثمار الجزء المهدور منه عادة على الطرقات وفي الإزدحام المروري، للعمل والإنجاز. وأشار بعض الموظفين المنخرطين بفاعلية بهذه التجربة إلى حالة الإبداع التي تكونت لديهم، لما باتوا يشعرون به من تعزيز لحالة التوازن بين متطلبات العمل ومتطلبات العائلة، والتخلص من الآثار السلبية لأجواء ومتابعات العمل المكتبي المشحونة غالباً، على إنجازاتهم اليومية للمهام المنوطة بهم.
إدارات مؤسسات عديدة استطاعت أن تؤقلم نفسها وفق مقتضيات الحال، وتواصل أعمالها، والأعداد في تزايد، لأن مسيرة الحياة لا تتوقف عند حادثة أو حدث هنا أو هناك، مهما علا شأنها أو شأنه، ويصح القول في هكذا حالات: إن توفرت الإرادة، فلن نعدم الوسيلة. وبتخطي الأزمة ستعمد تلك الإدارات إلى غربلة "الغث من السمين" من بين موظفيها، حيث يتوقع محللون أن يضطر ما نسبته 25% من الموظفين إلى ترك وظائفهم أو تغييرها بعد انتهاء الأزمة الحالية، في مرحلة انتعاش جديدة للإقتصاد، عنوانها العمل على تحقيق زيادة في إنتاجية الموظفين لا في عددهم، ويُتنبأ أن تعمد إدارات المشاريع الصغيرة، على وجه التحديد، إلى الإستعاضة عن موظفيها المثبتين وغير المنتجين، بآخرين على نظام العقود المؤقتة أو العمل الإضافي، بما يوفر لها طاقم عمل كُفء وبإنتاجية عالية، ولكن بتكلفة مالية أقل. وحينئذ، لا أعذار لمن لم يلحق بركب التطور، ولم يُلبِ متطلبات المرحلة الراهنة، ببذل الجهد المطلوب منه في التعلم وتنمية القدرات والمهارات اللازمة لإنتاجية أكبر في مجال عمله أو تخصصه، وهو ما زال في فُسحة من أمره.
وفي المقابل، مطلوبٌ من إدارات المؤسسات أن تعمل على تحقيق الإستقرار الوظيفي لذوي الكفاءات المميزة الذين نصروها في ساعة العُسرة وتعزيز الثقة بإخلاصهم لأماكن عملهم وأرزاق عوائلهم، خاصة وأنها سرعان ما ستستسيغ عمل موظفيها عن بعد، إلكترونياً، لما يحققه ذلك لها، خاصة في المؤسسات الكبيرة، من وفورات كبيرة في نفقاتها التشغيلية والعامة؛ من مصاريف طاقة ومياه، واستهلاكات لأصولها وممتلكاتها، ومستلزمات مكتبية، ومتطلبات نظافة وغيرها الكثير، وستجد نفسها مضطرة لتعزيز نهج العمل عن بعد جنباً إلى جنب العمل المكتبي المعتاد، الأمر الذي سيروق أيضاً لموظفي المرحلة القادمة لما سبق ذكره من ميزات، وكذلك للتقليصات الملحوظة التي سيحققونها في نفقاتهم الشخصية المتعلقة بمتطلبات العمل؛ مثل مصاريف المواصلات ،وحضانة الاطفال، والملابس وغيرها، ما يحفزهم على التساوق مع إدارات مؤسساتهم في مواصلة نهج العمل عن بُعد، وبما يعكس ممارسة عملية وجلية للمفهوم العلمي للإدارة بالمصالح المشتركة بين الإدارة والعاملين.
وخلاصة القول، إننا اليوم، وفي المقام الأول، بأمس الحاجة لتآلف الجهود والتعاضد والتكاتف، لنتمكن من اجتياز هذه الجائحة التي تمر بها الديار الفلسطينية بأقل الخسائر البشرية والمادية، وذاك فرض عين لا فرض كفاية، ومؤشر لكل منا لقياس مدى وعيه وتغليبه للقضايا الوطنية ومصالحنا الجمعية. ولا يقل عن ذلك أهميةً، وعينا بأننا مقبلون على تغيرٍ شاملٍ في استراتيجيات العمل ومفهوم الوظيفة ومتطلباتها، والغلبة لمن يغتنم هذه التجربة أو الفسحة من الوقت، في التعلم والإعداد والتطوير ليضمن لمؤسسته أو ذاته، موضعاً كريماً في مرحلة التعافي الإقتصادية بعد كورونا.