الوجه الآخر للأزمة: حتى لا تتحول الجائحة الصحية إلى جائحة اقتصادية
الكاتب: د. محمد مصطفى
لا بد أولاً من الثناء على جهود القيادة والحكومة والأجهزة الأمنية وسلطة النقد والقطاع الخاص والمجتمع المدني للوصول بأبناء شعبنا إلى برّ الأمان امام هذه الجائحة، وأود أن أثني بشكل خاص على قرارات الرئيس الاستباقية التي شكلت نموذجاً شجاعاً وحكيماً في ظل الإمكانيات المحدودة والظروف المعقدة التي نعيشها بسبب وجودنا تحت الاحتلال، ساهمت بلا شك في الحد من الانتشار السريع للوباء وتعمل على مواصلة احتوائه. إن صحة المواطنين وحياتهم تبقى بلا أدنى شك الأولوية المطلقة لنا جميعاً.
ومما لا شك فيه، فإن الأزمة الصحية التي خلفها فيروس كورونا غير مسبوقة، وأن إدارتها بالطريقة المثلى ضروري للمرور منها بسلام. ولكن حماية الاقتصاد ومكوناته من مؤسسات وعاملين هو أيضا أمرٌ في غاية الأهمية أيضاُ، كما أن إدارة بعض عواقب هذه الجائحة قد تصبح أكثر صعوبة إذا تأخرت.
بالإضافة إلى حياة وصحة المواطنين التي لا تقدر بثمن، أخشى أن تصبح صحة الاقتصاد الوطني أكبر ضحايا هذه الجائحة الصحية، وخصوصا المشاريع الصغيرة والمتوسطة وعمالها من ناحية، وموظفي القطاع العام من ناحيةٍ أخرى، بالإضافة طبعا الى العمالة العائدة من اسرائيل. قلقي يمتد ليشمل مستقبل بعض مؤسساتنا المالية (خاصة مؤسسات الإقراض للمشاريع الصغيرة) التي قد تكون هي أيضاً من ضمن الضحايا إذا لم ندر الأمور بالحكمة والمهنية الضرورية.
على المدى القصير والآني، الهدف الرئيسي هو العمل على إبقاء العاملين على رأس عملهم، بحيث تبقى الدولة قادرة على الوفاء بالتزاماتها نحو موظفي القطاع العام وتبقى الشركات الخاصة أيضا قادرة على الاحتفاظ بعمالتها ودفع أجور موظفيها خلال فترة الأزمة إن أمكن. وبالتالي فإن الأولوية خلال هذه المرحلة تتمثل في توفير السيولة اللازمة لتحقيق الهدف المذكور بما يحافظ على الاستقرار المالي والنمو الاقتصادي. وفي هذا المجال، كانت الإجراءات التي اتخذتها سلطة النقد الفلسطينية بتأخير المدفوعات خطوةً مهمّة في هذا الاتجاه، بالرغم مما يرتبه ذلك على البنوك من أعباء. كما أن استمرار الحكومة وأغلب الشركات في استمرار دفع رواتب العاملين لديها حتى الآن هو أيضاً خطوة مهمّة.
يمثلّ توفير السيولة اللازمة للحكومة والشركات لتمكينها من الاستمرار بما تقوم به التحدّي القادم، حيث المصادر الرئيسية المتوقّعة والقادرة على توفير هذه السيولة على المدى القصير محدودة. فبالإضافة الى موارد الخزينة المحلية، يمكن تحديد ثلاثة مصادر رئيسية هي، أولاً، موارد المقاصّة المحجوزة لدى الجانب الإسرائيلي والتي تتجاوز الـ 400 مليون دولار أمريكي، وثانياً، مساعدات عاجلة من الأطراف المانحة، سواء كانت مقرّة سابقاً ويمكن التسريع بتحويلها، أو مبالغ إضافية تتطلّبها الظروف الطارئة، والتي من المتوقع لها أن تتناقص في ظل الأولويات الوطنية للدول المانحة ذاتها، وثالثاً، الاقتراض من البنوك المحليّة دون إرهاقها وتحميلها أكثر من طاقتها، حيث إن الحفاظ على وضع مستقر وقوي للمنظومة المصرفية أولوية وطنية ذات أبعاد استراتيجية.
لذلك فإن هناك حاجةٌ لأن تقوم سلطة النقد والحكومة وصندوق الاستثمار والمؤسسات المالية الدولية بالعمل مع البنوك من أجل تعظيم قيمة السيولة التي يمكن توفيرها بطريقة مقبولة لدى هذه البنوك. وفي هذا المجال، فقد باشر صندوق الاستثمار بالفعل بتحويل جزء كبير من أرباح الصندوق عن العام 2019 إلى خزينة الدولة مقدماً.
بالإضافة الى المساهمة النقدية التي قام بها صندوق الاستثمار من خلال توزيع الأرباح للدولة كمساهم، فقد قام الصندوق كذلك بتوفير عدة فنادق في رام الله والقدس وبيت لحم وغزة لدعم المنظومة الصحية، كما يقوم الصندوق حاليا بالتحضير لإطلاق مجموعة من المبادرات للحفاظ على قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة لتمكينه من العودة إلى العمل بسرعة وفعاليّة؛ وهو ما سيتم الإعلان عنه قريباً.
إن اهتمام الصندوق بدعم استمرار عمل الشركات الصغيرة والمتوسطة يأتي نظراً لأنها تشكّل الجزء الأكبر من اقتصادنا الوطني من جهة، ولأن هناك قلقاً جدياً على عدم قدرة عدد كبير من هذه الشركات في الاستمرار في عملها والإبقاء على عمالتها من جهة أخرى، حيث إنها تواجه مخاطر كبيرة تجعلها عرضةً لأن تكون من أكثر القطاعات تضرراً جراء الجائحة. وفي هذا الإطار، تقوم إدارة الصندوق حاليا بالتشاور مع مجموعة من المؤسسات المالية المحلية والمؤسسات المالية الدولية واصحاب الخبرة لدراسة الرد الأنسب على تحديات المرحلة الحالية من أجل عمل ما يجب عمله لدعم هذه الشركات.
وتأتي هذه الجهود اعتماداً على تجربة الصندوق الغنية في هذا المجال، حيث قاد الصندوق خلال السنوات الماضية مجموعة من المبادرات، من بينها برنامج ضمان القروض، بالاشتراك مع مجموعة من المؤسسات الدولية وثمانية بنوك محلية، والذي وفر تسهيلات للشركات الصغيرة والناشئة بقيمة حوالي 200 مليون دولار في الفترة الماضية، إضافةً إلى عدة برامج مخصصة لتمكين المنشآت الصغيرة والمتوسطة ومؤسسات الإقراض متناهي الصغر في فلسطين (بما في ذلك في القدس) ومخيمات لبنان؛ حيث أدت هذه البرامج مختلفة إلى توفير الدعم إلى حوالي 4400 منشأه صغيرة ومتوسطة، مما أدى إلى خلق والحفاظ على عشرات آلاف الوظائف.
من ناحية أخرى، تشير جميع التقديرات تقريباً إلى أن تداعيات جائحة كورونا سوف تمتد لسنوات طويلة، مما يتطلب رؤية واستراتيجيات متوسطة وبعيدة المدى للتعامل مع هذه التداعيات. في فلسطين، كشفت هذه الجائحة انكشافا مقلقا على مجموعة من المحاور المؤثرة على اقتصادنا الوطني والتي أصبحت معالجتها الآن أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. وبالرغم من التحدي الكبير الذي أفرزته جائحة كورونا، إلا أن هناك ضرورة لأن يعمل الجميع معا لتحويل هذا التحدي إلى فرصة من خلال التخطيط لمعالجة التبعات الاقتصادية الطارئة والتأسيس لحل متكامل لمعضلات الاقتصاد المتراكمة وذلك ضمن رؤية وطنية شاملة، عنوانها الاعتماد على الذات – خاصة في ضوء اتجاه بعض الدول التي كانت مهمة لنا للتركيز على أولوياتها، واكتشافنا ان اعتمادنا على الخارج يشكل ثغرة رئيسية في الاستراتيجية الوطنية.
ومن أبرز محاور انكشاف الاقتصاد الوطني التي يجب أن تعالجها هذه الرؤية هي:
العلاقة المالية والاقتصادية مع إسرائيل، وبالذات استمرار تحكم الجانب الإسرائيلي بجزءٍ كبير من المال العام واستخدام أجزاء منه حسب ما يراه مناسباً، والاعتماد على الكثير من السلع والمنتجات الأساسية القادمة من إسرائيل، وحجم العمالة الفلسطينية في السوق الإسرائيلي. ولعل أبرز مثال على ذلك هو الاعتماد الكبير على إسرائيل في توليد ونقل الطاقة. وبالتالي، فهناك حاجة ماسة لبناء شبكة النقل للضغط العالي، وتوفير منظومة لتحفيز توليد الطاقة الشمسية، وحل لمشكلة خصومات شركة الكهرباء الإسرائيلية من أموال المقاصة (فيما يسمى صافي الإقراض) والتي تكلف الخزينة مئات ملايين الدولارات سنويا.
الحاجة لرفع كفاءة المنظومة الصحية: لقد أظهرت جائحة كورونا أن منظومة الصحة الموجودة لدينا لا زالت متواضعة، على الرغم من الأداء المميز الذي تظهره وتقوم به في هذه الأزمة، إلا أنها تحتاج الى نقلة نوعية تتم بناء على استراتيجية شاملة تقوم على أساس التكامل بين وزارة الصحة ومقدمي الخدمات، وضمن عقودٍ واضحة يتم إعدادها والإشراف على تنفيذها من قبل أطراف ذات خبراتٍ متميّزة. وفي ذات الإطار؛ يجب العمل على تشجيع مبادرات تصنيع الدواء والأجهزة المطلوبة لمواجهة هذا الوباء وغيره في المستقبل، من خلال دعم المبادرات التي تم الإعلان على بعض منها مؤخرًا وتحفيزها.
الحاجة إلى تطوير البنية التحتية الالكترونية: لقد أظهرت الجائحة أيضا عدم جاهزية البنية التحتية الالكترونية اللازمة للمستقبل (digital infrastructure). هذه البنية هي الشبكة الموازية لشبكة الطرق السريعة وشبكات الهاتف في الحقبة الماضية. إنها الشبكة اللازمة لتمكين خدمات التجارة الالكترونية، والتعليم عن بعد، والخدمات الصحية المتقدمة، والمعاملات المالية الالكترونية، والعمل من المنزل، وعقد الاجتماعات بدون سفر. وبذات الأهمية، لا بد من دعم مراكز البحث والتطوير والمبدعين وشركات الريادة والتكنولوجيا، لأن اقتصاداً جديداً سيُخلق في العالم بعد انتهاء أزمة الكورونا بشكلٍ سيتخطى فيه الثورة الصناعية الرابعة الى ما بعدها.
معالجة الضعف الشديد في المنظومة اللوجستية اللازمة للمساهمة في تحقيق "الأمن الاقتصادي". فهناك حاجة ماسة لمنظومة لوجستية متطورة لتسهيل خدمات الاستيراد والتصدير وتوفير حجم احتياطي مقبول من السلع الاستراتيجية الضرورية مثل القمح والطحين والأعلاف والسكر والبنزين والديزل.
لقد ساهم صندوق الاستثمار في معالجة بعض الاختلالات التي تتطلبها هذه الرؤية، وحقق إنجازات متميزة في هذا الإطار خلال العقد السابق، وهو مستمر في تحمل مسؤولياته ودوره القيادي في بناء اقتصاد وطني معتمد على الذات، من خلال الاستثمار في مشاريع استراتيجية قادرة على انتاج السلع والخدمات الأساسية. ويقوم صندوق الاستثمار ومجموعة من الشركات الحليفة حاليا على إعداد وتنفيذ برنامج استثماري كبير تفوق قيمته 500 مليون دولار في مشاريع استراتيجية في قطاعات الصحة والطاقة والصناعات الغذائية والزراعة والسياحة والبنية التحتية الالكترونية.
إن نجاح مثل هذا البرنامج يحتاج إلى أكثر من توفير الموارد المالية؛ إنه يحتاج كذلك إلى تضافر الجهود والعمل على ازالة المعيقات الإسرائيلية، بل والذاتية أيضا، لتمكين وتسريع هذه الجهود الوطنية. كما أن ذلك يحتاج الكادر البشري الذي يتمتع بالخبرة العالية في الشؤون الفنية والمالية والاستثمارية والقانونية المتخصصة في مثل هذه المشاريع. وصندوق الاستثمار الفلسطيني، الذي أخذ على عاتقه تحقيق أكبر قدر من التأثير الإيجابي من خلال الاستثمار في المشاريع الاستراتيجية في القطاعات النامية والحيوية، لن يتأخر أبدا ومهما كانت الظروف والتحديات عن القيام بما أنيط به من مسؤولية وطنية، كما هو الحال منذ تأسيسه.