الإنسان في زمن الكورونا
بقلك: توفيق رباحي
قصص متفرقة من آثار كورونا على البشرية وما كان إلى قبل شهرين ثوابت راسخا في أعرافها:
(1)
الأزمة تلد الهمّة. تستخرج من الإنسان أجمل ما لديه، ولكن أسوأ ما فيه أيضا.
بريطانيا التي خرجت فيها ممرضة في منتصف العمر تبكي بحرقة في تسجيل مصور لفَّ العالم، وتلعن أنانية مواطنيها الذي «مسحوا» رفوف المحلات التجارية الكبرى من كل شيء غير آبهين بغيرهم، بريطانيا هذه تقدَّم فيها نصف مليون متطوع لمساعدة المجتمع خلال الغلق الشامل الساري المفعول.
طلبت الحكومة 250 ألف متطوع، فتقدم 504 ألاف قبل انقضاء الساعات الثماني والأربعين الأولى من فتح التسجيل. قال مسؤولو خدمة الصحة العامة إنهم أحصوا تقدم معدل خمسة متطوعين كل ثانية.
(2)
صحيفة لوموند الفرنسية (الثلاثاء 24 مارس/آذار) نشرت تحقيقا مطولا عنوانه «هؤلاء الفرنسيون الذين اختاروا البقاء في إفريقيا» في زمن كورونا.
من السينغال إلى أثيوبيا، مرورا بكوت ديفوار وتونس ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى، عشرات الآلاف من الفرنسيين يعيشون منذ سنوات. هم خليط من رجال أعمال وتجار ومتعاقدين وموظفين ومتقاعدين. القاسم المشترك بينهم، أنهم يشعرون بأمان أكثر حيث هم الآن. لا يحبّذون العودة إلى فرنسا على الرغم من تخوف بعضهم من التعرض لتصرفات عدائية أو عنصرية، ومن احتمال أن يتفشى كورونا أكثر من أوروبا.
(3)
يوم الإثنين 23 مارس/آذار نشرت وسائل إعلام بريطانية نداء وزارة الخارجية البريطانية لرعاياها الموجودين في الخارج كسيّاح أو في زيارات أعمال أو عائلية، أن ينسقوا مع البعثات الدبلوماسية ويرتبوا عودتهم فورًا.
أجريتُ استطلاعا صغيرا من حولي بين أشخاص أعتبرهم معنيين بالنداء (لكن لا أدّعي أنهم عيّنة تمثيلية)، فكان الرد الغالب: نحن بخير ولسنا متحمسين للعودة.
(4)
الثلاثاء 24 مارس/آذار، نشرت صحيفة ديلي تلغراف اليمينية قصة شخصية بقلم الكاتبة والمغامرة البريطانية أليس موريسون. تقول السيدة موريسون في قصتها بعنوان «لهذا اخترت الهروب من بريطانيا ومتابعة أخبار كورونا من الريف المغربي» إنها اختارت الهروب عكس التيار: بينما كان بريطانيون يصارعون من أجل مقعد في طائرة متجهة إلى المملكة المتحدة، كانت هي تسابق الزمن لركوب آخر طائرة متجهة إلى المغرب قبل أن يغلق مطاراته وحدوده.
(5)
في محيطي القريب جدا رجل اضطر إلى «تهريب» ابنه من نيويورك في الساعات التي فصلت بين إعلان الرئيس ترمب غلق أمريكا في وجه العالم، ووقف الرحلات الجوية فعلا. ضحى الشاب، وهو في بداية حياته المهنية، بانتدابه الوظيفي طويل المدى، ترك كل شيء وراءه واستقل واحدة من آخر الطائرات المتجهة نحو أوروبا، عائدا إلى الجزائر.
(6)
العبرة من القصص السابقة: إخفاق المجتمعات الغربية أكبر من غيرها. العالم تساوى في المصيبة، والغرب لم يعد جنّة الأمان. لا فرق مع كورونا بين أبيدجان وباريس أو بانغي وبوردو.
لندن بصخبها وعصرنتها الصاعقة لم تعد أفضل من قرية إيمليل المنسية في قمة جبال الأطلس المغربية.
المرء يفضل الموت في المكان الذي يُشعره بالأمان من مسببات الموت.
(7)
صحيفة الغارديان البريطانية نشرت الجمعة الماضية مادتين جديرتين بالتأمل.
الأولى فيديو مدته ست دقائق لسيدة صينية تملك مطعم أكلات صينية في روما. اشتكت السيدة بحرقة من أنها عانت في بداية ظهور فيروس كورونا (في الصين) من شتى أنواع العنصرية والإهانات على يد إيطاليين. في المحل وفي الشارع، من عامة الناس ومن أفراد لم تنتظر منهم تصرفات كتلك.
لم يكن هناك مبرر لتلك العنصرية سوى ملامح وجهها وشعار مطعمها.
بحق، أخرج أولئك العنصريون أسوأ ما فيهم قبل أن يصلهم الحريق.
(8)
في مساحة أخرى نشرت الغارديان في العدد ذاته، رسالة مؤثرة من الأديبة الإيطالية فرنشيسكا ميلاندري إلى البريطانيين والأوروبيين.
عنوان الرسالة: هذا ما نعرفه عن مستقبلكم! أما مضمونها فخليط من العتب الصادق والنصيحة الأكثر صدقا. عتب نابع من إحساس بالظلم منطلقه أن الأوروبيين تخلوا عن الإيطاليين ووصموهم بالوساخة والفوضى وغير ذلك. ونصيحة منطلقها التجربة القاسية التي مرّ بها الإيطاليون خلال الأسابيع الماضية، والأسباب والحيَل التي أبقتهم على قيد الحياة وسط الجثث المهملة ورائحة الموت.
تنتهي الرسالة بإيحاء صارم: ما قبل كورونا لن يكون كما قبله «عندنا وعندكم». عندهم وعند الكل.