الحب في زمن كورونا
بقلم: سما حسن.
اعتدت أن أرى محل البقّال الصغير، الواقع على ناصية الشارع التي تفضي إلى بيتي، خاويًا من الزبائن، ولكنني منذ يومين بدأت ألمح تكالبًا وتهافتًا من الزبائن على باب المحل الذي ما إن رآني صاحبه العجوز، حتى تهلل وجهه، وهمس لي بكلماتٍ لم أفهمها، ولكنه أخرج عدة كمامات من درج سرِّي، وقدّمها لي: سأبيعك الواحدة بأقل من سعر السوق. وهكذا اكتشفت أنه قد وجد في بيع الكمَّامات التي يتهافت عليها الناس، وشحّت في الأسواق، وسيلة لمحاربة الكساد الذي يعانيه، فالناس، حسب قوله، تشتري الكمّامات أكثر ممّا تشتري الأرز والسكُّر.
إذن، أصبحت للكمّامات سوقها السوداء، في بعض البلاد العربية، علمًا أن الكمّامات في الصين مثلا، حيث منشأ فيروس كورونا المستجد، توزَّع مجّانًا على المواطنين. أمّا في بلادنا فنحن نصنع من كل أزمة فرصة للتربُّح وتكديس المال، على حساب الآخرين. ويبدو أن هذا المسلك متوارث، منذ قديم الزمن، ففي العصر المملوكي تعرّضت مصر لوباء الطاعون 44 مرّة، وارتفعت الأسعار، واحتكر البضائع التجار، في كلِّ مرة، وإنْ لم توجد الكمّامات وقتها، ولكن بعض أعشاب العطَّارين صارت تباع بمثقال الذهب، وراجت الخرافات والإشاعات، كما في هذا الزمن. ويبدو أن العرب يرثون السطحية، فقد راج، وقتها، أن البطيخ الصيفي هو أحد علاجات الطاعون؛ فزاد ثمنه، وتضاعف؛ فبلغ ثمن نصف البطيخة خمسمائة درهم، أيْ مثقالين من الذهب، فيما بحث السلاطين عن علاجات للوباء، حتى لو كانت خرافة، مثلما أشار أحدهم على السلطان المملوكي العزيز، أن يجمع 40 قارئًا للقرآن يحملون اسم محمد، ويقوم جميعهم بتلاوة القرآن الكريم، بصوت واحد، من صلاة ظهر الجمعة، حتى عصرها، في جامع الأزهر، وقد حدث ذلك بالفعل، وأتى بالقرَّاء، ودفع لهم الأموال، وتجمّع الناس؛ لسماعهم والتسبيح والدعاء، ولكن ذلك لم يزد الوباء إلا انتشارًا.
بالطبع، التكدُّس والازدحام ساهما في انتشار المرض، وقد عرض نجيب محفوظ، في الجزء الأول من السيرة العاشورية في رواية "الحرافيش"، طريقة بسيطة لمجابهة أيِّ وباء، حيث رحل الفتوَّة عاشور الناجي إلى الخلاء، أو الجبل، هربًا من زحام المدينة، حين انتشر وباء في البلاد، ولم ينصع لنصيحته أولاده الثلاثة، وكانوا شبابًا، ولا زوجته الأولى، وتبعته زوجته الثانية، وطفله الرضيع. وفي هذه الطريقة للنجاة من الأوبئة حكمة بسيطة، وهي البُعد عن أماكن الازدحام لتجنُّب العدوى. وقد ذكر ابن خلدون أن التوسُّع العمرانيَّ هو سبب انتشار الأوبئة، والسبب هو فساد الهواء، ولذلك فالمَوَت، حسب تعبيره، يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير".
وقد دعا أئمة المساجد في العهد المملوكي سلاطينهم لردِّ المظالم على الناس، والتواضع، فلبس السلطان (المؤيَّد) ملابس العامَّة، ونزل عن فرسه، وذبح الذبائح بيده؛ لعلَّ الله يكشف عنهم الغُمَّة، وكأن رجال الدين يعرفون ظلم السلاطين، واستئثارهم بالثروات، ولكنهم لم ينسوا النساء؛ فدعوا إلى حبسهن في البيوت، ومنعن من الخروج إلى الطرقات؛ لعل الربَّ يرضى عن عباده، ويرفع البلاء، وذلك أثناء تفشِّي طاعون،عام 1437ميلادية، تحديدا.
انتشار أيِّ وباء يكشف حقائق البشر، كما يكشف سطحية تفكيرهم، ونظرتهم إلى المرض والصحَّة، فالاعتداء بالضرب على شخص صينيِّ الجنسية، يعيش في دولة عربية؛ لمجرَّد أن الوباء بدأ في الصين، يكشف سذاجة التفكير، كذلك ما تعرَّضت له شابَّتان يابانيتان، في رام الله، قبل أيام، من سخرية واستهزاء، من المارَّة، على الرغم من أنهن يعشن في مدينة سكَّانها عرب، منذ فترة طويلة؛ لطبيعة عملهن الإنساني. أما الزوجات والأزواج العرب الذين وجدوا في انتشار الحديث عن تفشِّي فيروس كورونا وسيلةً للهروب من عشِّ الزوجية، أو التخلُّص من الشريك، فهذا بالطبع يكشف أن الحياة الزوجية واهية الأركان، مثل بيت العنكبوت، ولكن أجمل ما في الأمر هو التحذير من تبادل القبلات في المناسبات، أو دونها؛ فلا حب، أو تظاهر به، في زمن كورونا.