سائد كرزون يكتب
الريادية في فلسطين كمنهجية للتحرر وبناء الدولة
الكاتب: سائد كرزون
لا بدّ من هذه المقارنة القاسيّة أحياناً حتى نعرّي الواقع، لنتمكن من بناء الدولة بواقعية إيجابية ومنطقية.
أدركت حكومات الاحتلال الإسرائيلية المتعاقبة مبكراً أن الريادية التكنولوجية والمعلوماتية هي الطريق لبناء كيان قوي اقتصادياً وسياسياً وأمنياً. هذا الإدراك انعكس على الواقع من خلال، أولاً: فهمها العميق لأهمية الريادية بجوانبها المتنوعة في بناء الاقتصاد الإسرائيلي في زمن العولمة التكنولوجية المعلوماتية الرقميّة، وثانياً: فهمها لدور التكنولوجيا كقوة، ودور ريادة الأفراد وإبداعهم، ودور المؤسسات غير الحكومية والشركات ومشاريعها في بناء المصالح الاقتصادية والقيم المشتركة كجسر يربط بين المجتمع الإسرائيلي والمجتمع العالمي، لتتمكن "إسرائيل" من توسيع نطاق قوتها التكنولوجية والأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والدينية والثقافية مع العالم.
دفعا هذان الأمران "الحكومات الإسرائيلية" منذ التسعينيات، تحديداً، للتفكير بضرورة: أولاً: توظيف تكنولوجيا المعلومات والأبحاث في خدمة سياساتها الداخلية والخارجية، وبناء تحالفات اقتصادية وعسكرية على مستوى إقليمي وعالمي. ثانياً: توظيف دور الرياديين الشباب الاقتصاديين والاجتماعيين والثقافيين والفنيين في خدمة الاقتصاد "الإسرائيلي" عبر الاستثمار بأفكارهم ومشاريعهم. ثالثاً: بناء أرضية خصبة "Startup Nation" لتحفيز المستثمرين الإسرائيليين والعالميين للاستثمار فيها، وفي المشاريع الشبابية الريادية التكنولوجية والزراعية والعسكرية والاقتصادية، وفي الشركات الناشئة والكبيرة.
بكل تأكيد أصبحت دولة الاحتلال عملاقة تكنولوجياً، وتأتي في المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين من حيث عدد الشركات التكنولوجية الأهم. فقد حققت تلك الشركات الإسرائيلية رقماً قياسياً بلغ 4.8 مليار دولار في رأس المال الاستثماري عام 2016. كما تعتبر الأولى عالمياً من حيث الانفاق على البحوث التطويرية التكنولوجية بمعدل 4.25% من الناتج المحلي الإجمالي GDP. وبين عامي 1999 و2014، أنشأ الإسرائيليون 10,185 شركة تكنولوجية، محققة 100 مليون دولار كعائدات سنوية. إذن لم يعد تصنيف وقياس قوة الدول ينطلق من مساحتها، وعدد سكانها، وقوتها الاقتصادية والعسكرية فحسب؛ بل أصبح التطور التكنولوجي الرقمّي معياراً يُؤخذ بعين الاعتبار في عصر العولمّة وتكنولوجيا المعلومات.
لماذا هذه المقدمة؟
أولاً: بعد أن انتشر الإحباط العام في فلسطين لأسباب كثيرة منها: نتائج أوسلو السلبية سياسياً واقتصادياً على الشعب الفلسطيني، الاعتمادية الاقتصادية على "إسرائيل" والداعمين الدوليين وشروطهم "التنموية" وتدخلاتهم في السياسات الوطنية الفلسطينية على جميع مستويات صناعة القرار الفلسطيني وما نتج عنها من قيود معقدة، والانقسام الفلسطيني ... الخ؛ فكلها عوامل أنشأت جيلاً يخاف العمل الريادي، وأنتجت بيئة اقتصادية "مقلقزة" وغير محفزة لا للشباب الفلسطيني ولا للمستثمرين، وصنعت نمط حياة استهلاكي بالمطلق، ومؤسسات لا تفكر ببناء جدوى اقتصادية لدعم مشاريعها ذاتياً، وقطاع خاص لا يكترث بالمشاريع الوطنية، ويعتقد أن المسؤولية الاجتماعية جزء من خطة العلاقات العامة التسويقية الربحية. وغيرها من النتائج المعقدة التي تدركونها أكثر منّي.
ثانياً: هذا يعني؛ أن الخوف والإحباط وفقدان الثقة بالذات الفردية والجماعية الفلسطينية، وبالسياسات الحكومية الفلسطينية، أدى بعد 25 عاماً، إلى بناء ذهنية فلسطينية تركّز على السلبيات والمشاكل والإخفاقات -وهذا انعكاس للواقع طبعاً- مما جعلنا نصل لمرحلة "الدمار الذاتي"، وننسى نقاط قوتنا كشعب وكأفراد، لنعجز عن تقديم البديل والنهوض من جديد.
إذن، ماذا نقترح؟
أولاً: يجب أن نغلق الباب نهائياً وللأبد على اتفاقية أوسلو أو على أي اتفاقية تقيّد الحرية المالية والاقتصادية الفلسطينية، أو تسمح للمؤسسات الدولية الداعمة بالتدخل في السياسات الوطنية التي من شأنها التأثير سلباً على تحررنا الاقتصادي. كما ويجب أن نستخلص الدروس من تجربة أوسلو، وأن نقرر ذهنياً وسلوكياً بأن نتحرر من نتائجها للأبد، ونغلق هذه الصفحة.
ثانياً: وكيف هذا يتم؟ من خلال الإرادة على المستوى الحكومي، وعلى مستوى سياسات وزارة الاقتصاد والمالية والتعليم، وعلى مستوى المؤسسات الأهلية الكبرى والقطاع الخاص ودورهم في الاستثمار "بشكل حقيقي وفعّال" بالمشاريع الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة. فالإرادة لا تحتاج لمال، لكنها تحتاج للشجاعة والبدء بالتنفيذ والعمل.
ثالثاً: أعلم أن اقتصادنا مترهل، وأن واقعنا مرير، وأننا نعيش تحت احتلال، إلا أنني أعلم أيضاً أننا نملك شيئاً واحداً فقط، شيئاً هو أغلى ما لدينا، وهو نقطة قوتنا أمام الاحتلال وأمام التحديات الداخلية والدولية، وهو الشباب والناس والإرادة الذاتية. سلاحنا في يدنا. فقط هو قرار واحد يهدف للاستثمار بالشباب والناس بأفضل الطرق، وليس بعزلهم.
رابعاً: الاعتراف بالهزيمة. نعم! نحن في وضع سيئ للغاية وكارثي. يجب أن نعترف أننا هُزمنا سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً. هذا الاعتراف سوف يكون أحد أهم أعمدة النهوض من جديد وبقوة عظيمة لن يتخيل أثرها أحد في هذا الكون.
خامساً: التواضع. التواضع أمام تقييم ذاتنا ونتائج أعمالنا. يجب أن نتواضع أمام الحياة، وأمام أنفسنا، وأمام التحديات ومناصبنا ومكانتنا. التواضع أمام الهزيمة، وأمام إمكانياتنا ومصادرنا المحدودة وغير المحدودة المتواضعة جداً. نحن بحاجة للتواضع باعتباره العمود الثاني للنهوض من جديد بعد الاعتراف بالهزيمة.
سادساً: إعادة ثقتنا بذواتنا، وبالحكومة والأحزاب من خلال تبني سياسات جدّية وحقيقية تخدم المواطن ومصالحه، وتضمن تنفيذه لواجباته بالمقابل.
سابعاً: الاستثمار بالمشاريع الريادية الشبابية، وبالشركات الصغيرة والمتوسطة من خلال: 1) تبني سياسات حمائية تحمي المنتج الفلسطيني ودعمه. 2) سياسات مالية واقتصادية تحفيزية للشباب كالإعفاء الضريبي وتسهيل المعاملات وتنفيذ مشاريع ربحية ومجتمعية لضخ دم جديد في السوق. 3) بناء مناخ طبيعي وإيجابي محفّز للمستثمرين من العالم للاستثمار في تلك المشاريع والشركات والمبادرات. 4) بناء نظام دعم وطني يشّبك ما بين الحاضنات ومسرّعات الأعمال والقطاع الخاص والرياديين، ويسعى لدعم المشاريع الشبابية. 5) بناء نظام قوي ضمن المسؤولية المجتمعية القائمة على المخاطرة والدعم الوطني والفكر التحرري، وليس نظاماً يخدم العلاقات العامة والتسويق والربح المباشر.
ثامناً: يحتاج وزير التربية والتعليم الآن للجرأة والشجاعة لتثبيت نظام ومناخ تعليمي ريادي في المدارس والجامعات، يهدف إلى بناء قاعدة جماهيرية تتبنى النهج والفكر الريادي، لنتمكن مستقبلاً من إنتاج أفكار تنافس عالمياً. وهناك عشرات الطرق لتنفيذ هذا المقترح.
تاسعاً: بعدها يجب أن نبدأ بتسويق صورة ذهنية لأنفسنا أولاً، وللعالم ثانياً على أننا شعب يريد النهوض "خطوة خطوة"، ويريد الحياة، والحرية، وهذا من خلال حملة تحفيزية وطنية ودولية، ترافقها سياسات واقعية تطويرية تحمل شعار" فلسطين تُبدع وتبتكر" وفلسطين الريادية". نحن بحاجة لتسويق هذه الفكرة لنتمكن من إقناع أنفسنا بفكرة النهوض والإيمان بها نفسياً، ولنتمكن من إعادة بناء صورتنا كشعب تحت الاحتلال يسعى نحو الحرية بكل الوسائل العالمية.
عاشراً: نحن بحاجة إلى أن نبدأ بداية جديدة. بداية كلها طاقة ومبادرة وحلول جديدة وغير تقليدية.