التعليم في العالم العربي: أزمة هوية وجنوح نحو النموذج الغربي
الكاتب: رولا قبيسي
لا يختلف اثنان على أن التعليم في العالم العربي يعاني أزمة حقيقية، وإن اختلفت أسبابها من دولة إلى أخرى، فالنتيجة غير مشجعة البتّة، أقلّها على الصعيد التنموي. وكغيره من القطاعات، يعاني التعليم المدرسي غياب الاستراتيجية لدى الدول العربية لتطويره، بما يتناسب مع احتياجات المجتمع المحلّي وقيمه وهويته من ناحية، ومتطلبات المجتمع الدولي من ناحية أخرى. غير أن الخطر الحقيقي يكمن أكثر في القطيعة التي أحدثها هذا القطاع مع المجتمع المحلي وركائزه الأساسية من لغة وهوية وثقافة.
التركيبة الاجتماعية والثقافية
تعرّف منظمة اليونيسيف (1960) التعليم بأنه «وسيلة لتمكين الأطفال والكبار على السواء من المشاركة بفعالية في تحول المجتمعات التي يعيشون فيها. ومن الضروري أيضاً أن يشدد التعلم على القيم والمواقف والمسالك التي تعلم الأفراد طريقة العيش المشترك في عالم بات متنوعاً ومتعدداً». وعليه، لا يمكن أن يُساهم التعليمُ في تطوّر المجتمع ونهضته، وفي وضع أسُس العيش المشترك، من دون أن يستندَ إلى سياسات ورؤى تهدف إلى المحافظة على ركائز المجتمع، وإلى إيجاد حلولٍ للإشكاليّات التي تطرأ عليه أو تستهدف تركيبتَه الاجتماعيّة والثقافيّة.
إن دور التعليم هو التأسيس لثقافة وطنية جامعة تحفظ منظومة قيم المجتمع وهويته ولا تزعزهما. وفي الإطار ذاته، نجد أن معظم النظريات التعليمية التي تستند إليها السياسات التربوية الحديثة تركّزعلى أهمية السياق الاجتماعي والثقافي للتطوّر والتعلّم.
وهذا يعني بشكل بدهيّ أن النظام التعليمي يجب أن يرتبط بهذا السياق، أي أن يستخدم ويستهدف الأدوات الثقافية والاجتماعية الخاصة بالمجتمع المحلي، ليعمل على تركيزها وتطويرها ضمن حدود هوية المجتمع.
وحريّ بالقول أن العديد من الدول تقوم بإصلاحات تعليمية، وبتطوير سياساتها التربوية على أساس رؤية استراتيجية ترتبط بمستقبلها الحضاري التنافسي في المنطقة، وبمدى محافظتها على هويتها وثقافتها ولغتها. أين العالم العربي من هذا ؟
وأين هذا النظام من بناء مفهوم الهوية الثقافية واللغوية والوطنية لدى الطلبة ؟
تدهور وجمود
إذا وضعنا جانبًا الحال التي وصل إليها التعليم من تدهوروجمود في بعض الدول العربية التي تعاني حاليًا من الحروب، فيجب ألا تغرّنا الخطابات الرنّانة التي تناولت تطوّرالنظام التعليمي ونجاحه في دول عربية أخرى طالتها الإصلاحات التعليمية. فتقويم نجاح أي نظام تعليمي يعتمد على معاييرمختلفة، منها الأكاديمي والبيداغوجي، ولكن أيضًا هناك معايير ترتبط بالتنمية الاجتماعية، وبدورالمدرسة لأنها مؤسسة تُعنى بالإصلاح الاجتماعي، خاصة في المجتمعات التي تعيش صراعًا من أجل البقاء والمحافظة على هويتها.
من الضروري أن يساهم النظام التعليمي في تطويرمعارف الطالب ومهاراته، لكن معايير النجاح تكمن أيضًا في المحافظة على عاملين مهمّين: الهوية واللغة، وهذه ليست الحال في الوطن العربي.
فبعض الدول العربية التي أرادت النهوض بنظامها التعليمي، لا يمكن اعتبار محاولاتها ناجحة لأنها غرقت في الشكل على حساب المضمون، ولم تربط بين التغيير في النظام التعليمي وواقع مجتمعها ورؤيتها الحضارية وهويتها. فاعتبرالعديد منها أن النهضة إنما تكون باستحضار النموذج الغربي، وتقليده أو الإبقاء على إرثه، وهذا أمر لا يرتبط بأي استراتيجية نهوض لأي دولة.
استيراد النظام التعليمي
إن أبرزأزمة يعاني منها التعليم في العالم العربي هي أزمة «استيراد النظام التعليمي» من الخارج. فبدلًا من العمل على تنمية النظام القائم انطلاقًا من واقع المجتمع واحتياجاته وتطلعات الأفراد والدولة، مع الحثّ على الاستفادة من خبرات الآخرين المتقدمة والاطلاع عليها والأخذ منها، نرى دولًا عربية تستنسخ النماذج الغربية بدون دراسة حقيقية للسياق الاجتماعي والتاريخي والثقافي للمكان ولأدواته.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا لا يعتبرانفتاحًا البتة، لأن الانفتاح يقوم على أساس تبادلي يملك فيه الطرفان أدوات وتجارب وخبرات تمكنهما من النقاش والتفاوض لما هو أفضل للدولة، دون أن تكون المعادلة السائدة غير متوازنة كما هي الحال. فما يحدث قائم على علاقة أحادية في تصدير النموذج الغربي بكلّ أدواته ورموزه وثقافته ولغته، مما أدّى إلى إفلاس في النظام التعليمي العربي، كان له تأثيره على فكر الطالب وتغييب دوره من ناحية قضايا مجتمعه.
حالة قطيعة بين المدرسة والمجتمع
وقد أدى فرض هذا النموذج إلى تردّي وضع المدارس الوطنية لصالح المدارس الخاصة التي يُعتبر بعضها وجهًا من وجوه العولمة والاحتلال الثقافي للدولة. وهذه المدارس التي تأتي بمنظومة قيمها الخاصة، لا يفقه معظمها شيئًا، عن قصد أو عن غير قصد، عن خصوصية المجتمع العربي وتركيبته الاجتماعية، فتفرض نموذجًا ثقافيا مغايرًا، يلمع سطحه بريقًا، فينصهرالطلاب وقبلهم الأهل ضمن هذا النموذج، وذلك على حساب الهوية واللغة.
ونلحظ إشكالية أخرى ترتبط بالتعليم الرسمي، حيث أن بعض الإصلاحات التعليمية في العالم العربي تمّت تحت شعار رفع مستوى المدرسة المحلية. لكن المشكلة تكمن في الاستعجال في تطبيق النظام الجديد، ومحاولة إحداث تغيير في ممارسات المدرسة المحلية دون دراسة موضوعية للبيئة الحاضنة. فالتغيير في فلسفة التعليم لم يترافق مع أي خطة تغييراجتماعي، فبدا النموذج مركبًا غير ملائم للمجتمع.
بمعنى أدق، لايوجد نهج تعليمي سيىء أوجيد بمقدارما هو نهج ملائم أوغير ملائم لمتطلبات المجتمع ولتركيبته. فإن كانت المدرسة تلعب دورًا في التغيير الاجتماعي، يجب أن تكون مالكة على الأقل لبعض أدوات المجتمع حتى تطوّره تدريجيًا بالشكل المطلوب. لكننا نعيش حالة قطيعة بين المدرسة والمجتمع الذي ما زال، في بعض الدول، متأخرًا عن توقعات المدرسة وقيمها حسب النظام الحديث.
إن النظام التعليمي القائم على الطالب ومسؤوليته واستقلاليته ومحوريته في التعليم، من الصعب ضمان نجاحه الحقيقي في مجتمع ما زال يعاني من مشاكل في حقوق الإنسان مثلًا. فهذا التناقض بين خطاب المدرسة وبين واقع المجتمع، وواقع المعلم الذي يحمل قيم المجتمع، عمّق أزمة التعليم. وليس الحلّ طبعًا أن تبقى المدرسة على ما هي عليه من تخلف ورجعية، ولكن التغيير يجب أن يأتي من الداخل وأن يترافق مع تغييرات اجتماعية أخرى تصل إلى فئات المجتمع جميعا لأن المدرسة لا تنفصل عن بقية قطاعاته.