موسم هجرة الأطباء
الكاتب: سما حسن
بعد أكثر من عشر سنوات من حصار غزة، وما تلا الحصار في العام الأخير من استقطاع رواتب موظفي السلطة الفلسطينية فيها، أصبح هناك ما يعرف بهجرة الأطباء خصوصاً من الذين تأثر دخلهم بالوضع الاقتصادي المنهار، من حيث عدم الإقبال على العيادات الخاصة، وكذلك عدم تلقي الأطباء لمستحقاتهم المتأخرة، أو حصولهم على علاوات وحوافز.
دار الحديث في مواقع التواصل الاجتماعي عن قائمة طويلة من أسماء أكفأ الأطباء الذين تركوا غزة بلا عودة، وما بين من يشجع ومن يشجب ويدين هذه الهجرة كانت الآراء تختلف ووجهات النظر تتراوح ما بين ظالم ومنصف.
الواقع أن الأمر ليس جديداً، فمنذ فتحنا أعيننا على واقع الحياة، وغزة تصدر الكفاءات منها إلى العالم، ولم تتوقف الهجرة ذات الاتجاه الواحد منها ابتداء من عام النكبة 1948 حتى اليوم، وإن اختلفت الوجهات، ولكن السبب يكون واحداً وهو البحث عن لقمة عيش شريفة في ظل الأوضاع الاقتصادية، وعدم توفر فرص العمل في الوقت الحالي خصوصاً، وما بين توقف الرواتب وتذبذبها بات الوضع في غزة لا يطاق.
ذكرت إحصائيات حديثة أن شهر رمضان وحده قد شهد هجرة 13 ألف شاب من غزة، هؤلاء الشباب غالبا ما يكونون من خريجي الجامعات والذين طال بهم أمد الانتظار، ما بين البحث عن فرصة عمل أو الأمل في تحسن الأوضاع وانفراج الحال، ولكن مع تأزم الوضع الاقتصادي والسياسي، وكذلك تضييق الخناق على الناس بسبب إغلاق معبر رفح متنفس غزة الوحيد وفتحه لأول مرة لمدة شهر كامل، أصبح الشباب يبحثون عن الخلاص ودفعوا الأموال الطائلة في سبيل الخروج من السجن الكبير، حتى لو كان مقصدهم مجهولا وبلا وجهة محددة، فالأمل والتوقع بأن الخارج لن يكون أسوأ من الداخل كان الدافع الأول وراء سفر هذا العدد الكبير من الشباب.
بالنسبة للأطباء في غزة والأسماء التي تم تداولها في قائمة طويلة فهي أسماء لأطباء لهم بصمتهم في علاج مرضى غزة لتعدد تخصصاتهم وكذلك ندرة بعض التخصصات، والجميع يعلم ما قدمه هؤلاء من خدمات تندرج تحت مسمى رسالة الطب السامية لشعبهم وفي أحلك الظروف، ولكن الطبيب يبقى إنسانا أفنى عمره وزهرة شبابه في التعليم والحصول على الشهادات العليا، وأصبح لديه عائلة ولديه التزامات، وعلينا أن نلاحظ أن العمر قد تقدم بهؤلاء الأطباء ولا زال أولادهم في عداد الأطفال وهم بحاجة لتكوين وبناء مستقبل لهم، فمثلاً لو قارنا بين عمر أي طبيب وعمر أطفاله لوجدنا أن الفرق يكون كبيراً بسبب تأخر سن الزواج لديه، فكيف سوف يتمكن الطبيب من تعليم ابنه وقد يحال على التعاقد بعد عشر سنوات، فكثير من هؤلاء لم يعودوا في سن الشباب لكي نتحدث أن العمر ما زال طويلا أمامهم، وعلى العكس من ذلك فأقرانهم وقرابتهم وزملاء دراستهم في المرحلة الثانوية والذين لم يدرسوا في كلية الطب ولم يسلكوا هذا المسلك التعليمي الذي يحتاج لسنوات طويلة من الدراسة، نكتشف أن هؤلاء قد تزوجوا في سن مبكرة وأنجبوا وأصبح أولادهم على أعتاب الجامعات.
يجب أن ننظر بعين الإنسانية لهؤلاء الأطباء الذين من حقهم أن يفكروا بمستقبل أطفالهم، وأن يفكروا بكرامتهم المهدورة وسنوات عمرهم التي ضاعت في التعليم، وسنوات العطاء في غزة والتي كان مكافأة نهاية الخدمة فيها هي استقطاع رواتبهم وتذبذبها، وكل طبيب لديه التزاماته مثل باقي الموظفين من تعليم الأولاد، والأقساط ومستلزمات الحياة التي لا غنى عنها.
لا يمكن أن نتوقع أن يجد الأطباء حياة أفضل بكثير من غزة في الخارج، ولكنهم سوف يجدون راتبا منتظما، وسوف يجدون تقديراً من حوافز وعلاوات ومكافآت، وسوف يكون لديهم بعض الأمان أن الراتب لن ينقطع إلى الأبد في أي وقت، أو يغيب لعدة أشهر في فترة ما.
القلق النفسي يدمر الإنسان، والحياة التي يعيشها كل موظف في غزة أصبحت تضغط على أعصابه، وحين نتحدث عن هجرة أطباء من غزة، فنحن ننسى أن غزة ولادة وهناك المئات من طلبة الطب حول العالم سوف يعودون إلى غزة ويحاولون وينبشون بحثا عن مكانتهم، ثم يفقدون الأمل ويغادرون ليأتي غيرهم، فلن تفرغ غزة من الكفاءات ولن تفرغ من الأطباء ولن تتوقف الهجرة الأحادية الاتجاه التي هي إحدى مظاهر نكبة فلسطين، ويكفي أن كل من يخرج من غزة سيحكي لأولاده عن أيامه الجميلة فيها، غزة التي في قلبه، لا التي تركها مرغماً، بحثاً عن مستقبل بلا تهديد.